“أقواس من حياتي” لصلاح الدين الجورشي: قسمان، ومفارقتان، وفوائد جمّة

(ملخص مداخلتي تعقيبًا على تقديم الصديق صلاح الدين الجورشي لكتابه “أقواس من حياتي”، بالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مساء الجمعة 23 ماي 2025).
مقدمة
بعد توجيه الشكر للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الذي لا ينفكّ يضع منبره على ذمة الكُتّاب والباحثين والمبدعين ويشجعهم، أجدّد تهنئتي للصديق صلاح الدين الجورشي على هذا الإصدار. فبصرف النظر عن المضمون، ليس من السهل السهر على إعداد كتاب بهذا الحجم.
هذا اللقاء ليس مجرّد احتفاء، بل حوار مع الكاتب حول عمله. وكتاب “أقواس من حياتي” ليس مجرد سرد لذكريات شخصية، بل “شهادة حول عصر مضطرب من تاريخ تونس المعاصر”، وقد نُشر للعموم. لذلك أعوّل على صداقتي الطويلة مع الجورشي، الممتدة لأربعة عقود، وعلى مشاركتي له في بعض التجارب الواردة في الكتاب، وكذلك على ما أعرفه من رحابة صدره، لأعبّر عن وجهة نظري فيما خلصتُ إليه بعد الاستمتاع بقراءة هذا العمل. وقد اخترت لهذا التعقيب العنوان التالي: “أقواس من حياتي” للجورشي: قسمان، ومفارقتان، وفوائد جمّة. فماذا عنيت بهذه العبارات؟
أولًا: قسمان
يقع الكتاب في 552 صفحة، توزّع مضمونه على تسعة فصول غير متوازنة، إلا أن الكتاب ينقسم فعليًا إلى قسمين:
القسم الأول (الصفحات 1–263): يضم ستة فصول، وهو أقرب إلى المذكرات الشخصية، حيث تناول فيه الجورشي نشأته، وعائلته، ومحيطه، وانتماءه المبكر إلى الجماعة الإسلامية، ثم مغامرة “الإسلاميين التقدميين”، وتجربته الصحفية، وعلاقته بحركة الديمقراطيين الاشتراكيين، ونضاله داخل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.
القسم الثاني (الصفحات 267–518): يتكوّن من ثلاثة فصول. السابع يتناول فترة حكم بن علي، والثامن يتناول الثورة المتعثرة بعد 2011، والتاسع يسلّط الضوء على بعض الشخصيات التونسية والعربية التي التقى بها الجورشي واحتفظ بذكريات خاصة معها. هذا القسم كان أقرب إلى التحليل السياسي الذي اعتدناه منه.
وقد خُتم الكتاب بألبوم صور مختارة تضم الجورشي وعائلته وعددًا من الشخصيات المهمة التي جمعته بها لقاءات.
ثانيًا: مفارقتان
المفارقة الأولى:
عُرف صلاح الدين الجورشي كشخصية مستقلة تنشط في المجتمع المدني، وتميل إلى الاهتمام الفكري والثقافي عمومًا، ولا تخفي انتقاداتها للعمل السياسي والحزبي، إلى حدّ “الاستنكاف” أحيانًا.
لكن من يقرأ “أقواس من حياتي” يكتشف أن الجورشي مارس السياسة بشكل “كوالسي” – أي من خلف الستار، من دون لافتة حزبية أو إعلان رسمي – لكنه مع ذلك كان مؤثرًا أحيانا في القرار والأحداث السياسية. والقسم الأول من الكتاب، خاصة، مليء بأنشطة سياسية، تضمنت تواصله مع قيادات حزبية، ومسؤولين حكوميين، ومشاركته في تقديم المشورة أو لعب دور الوسيط أو الناصح. كما أن دوره في قيادة الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، التي شاركته فيها لأكثر من 15 سنة، كان ذا بعد سياسي واضح. وقد عُرضت عليه مناصب حكومية وحزبية بعد الثورة، كما ترشح لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011، وترأس “المجلس المدني الموازي”.
المفارقة الثانية (وهي جوهر هذا التعقيب):
الصفة التي اشتهر بها الجورشي داخليًا وخارجيًا هي كونه “إسلاميًا تقدميًا”، وكان من الطبيعي أن تحضر هذه الصفة ومتعلقاتها بقوة في “أقواس حياته”، لكنها حضرت بشكل خافت جدا.
فنشاط “الإسلاميين التقدميين” منذ انشقاقهم عن الجماعة الإسلامية أواخر سبعينات القرن الماضي، اتخذ ثلاثة عناوين رئيسة: مكتبة الجديد، ومجلة 15/21، ومنتدى الجاحظ.
خصّص الجورشي صفحة واحدة لمكتبة الجديد (بين الصفحتين 126 و127)، وصفحة واحدة لمنتدى الجاحظ (ص. 148)، وكانت في موضوع عرضي. أما تجربته الصحفية والفكرية في مجلة 15/21، التي كان رئيس تحريرها، فلم يتناولها إطلاقًا.
خصّص نحو 20 صفحة لما سماه “مغامرة الإسلاميين التقدميين” (ص. 168–188)، لكن الحديث فيها كان ناقصًا، وغير محيّن، وفي بعض الحالات غير موثّق، بل إن بعض الصفحات خرجت عن الموضوع.
وأود التوقف عند مسألتين، لأن جزءًا من مهمة مناقشة المذكرات هو إما استكمال السردية أو نقدها أو تقديم سردية مغايرة. ونظرًا لضيق الوقت، سأكتفي بهما:
- سردية الإسلاميين التقدميين وتطور تجربتهم بتونس:
بدا الصديق الجورشي مشدودًا إلى مرحلة الانشقاق وردود الفعل تجاه الجماعة الإسلامية، وأحال على لوائح داخلية صاغتها مجموعة الإسلاميين التقدميين سنة 1980، ونشرها سابقا في كتابه “الإسلاميون التقدميون”، وهي مرحلة كانت، في رأيي، ظرفية، وأقرب إلى ردّ الفعل، وسرعان ما تجاوزتها التجربة. فأغلب من شارك لاحقًا في أنشطة “الإسلاميين التقدميين” وتطوير فكرهم لم يشهدوا الانشقاق، وكثير من المنشقين الأوائل غادروا التجربة.
كان للاطلاع على أعمال المفكر العربي الراحل حسن حنفي – الذي أعلن مشروع “اليسار الإسلامي” – تأثير نوعي، خاصة من خلال اللقاءات المباشرة العديدة معه، والتي أثرت في التفكير النظري للإسلاميين التقدميين، وهو بدوره استفاد من تجربتهم، كما أشار في مذكراته. وكان إصدار كُتيّب “المقدمات النظرية للإسلاميين التقدميين” سنة 1989، بتوقيع صلاح الدين الجورشي ومحمد القوماني وعبد العزيز التميمي نيابة عن المجموعة، محطة مفصلية في بلورة مشروع التيار.
انتقل الإسلاميون التقدميون في منتصف الثمانينات من جماعة تبحث عن تنظيم إلى تيار فكري مفتوح، انخرط في النقد الجذري للفكر العربي المعاصر، خاصة بعد هزيمة 1967. وكان حصولنا مطلع التسعينات، على تأشيرة لجمعية ثقافية باسم “منتدى الجاحظ” من أجل تنوير عربي-إسلامي، إعلانًا واضحًا لتوجه هذا التيار.
كان بوسع الجورشي أن يعود على الأقل إلى التقارير الأدبية للجمعية، ليعرّف بأنشطتها، وحجمها، ونوعيتها، والانفتاح الذي عرفته على مختلف تيارات الفكر العربي ورموزه في تونس وخارجها، وقد كان الجورشي الواسطة في دعوة عدد من تلك الشخصيات وتنظيم لقاءات معها.
- المشاركة في تجربة الإصلاح التربوي مع محمد الشرفي:
عرض الجورشي هذه المسألة بشكل مقتضب ومخلّ، رغم علمه بحساسيتها، وما يثار حولها من لغط وتشويه في حق الإسلاميين التقدميين.
لقد شارك بعض رموز هذا التيار في تجربة الإصلاح التربوي حين عيّن الرئيس بن علي الوزير محمد الشرفي في بداية التسعينات، الذي بدوره عيّن احميدة النيفر مستشارًا له. ولبّى الإسلاميون التقدميون، الذين يضعون إصلاح التعليم وبناء التفكير في صلب مشروعهم، الدعوة، دون أن يكونوا ملزمين بخيار القطيعة والصدام مع السلطة كما فعلت حركة النهضة آنذاك.
وبوصفي شاهدًا على تلك المرحلة ومشاركًا من مواقع متقدمة في إصلاح مادة التربية الإسلامية، أؤكد أن الوزير الشرفي أتاح لنا كامل الحرية في مراجعة البرامج واقتراح البدائل، ولم يتدخل مطلقًا في خياراتنا رغم الضغوط التي تعرّض لها من بعض الاستئصاليين والتجمعيين، ولم نجد منه سوى الدعم.
وكان بوسع الجورشي – الذي كان عضوًا في اللجنة القطاعية لإصلاح مادة التربية الإسلامية ممثلًا للرابطة – أن يفيد القرّاء على هذا الصعيد، ويعرّف ببعض ما حصل، فيُشير إلى الخيارات الجديدة التي تم اعتمادها، مثل:
- تسمية المادة بـ “التفكير الإسلامي” في المرحلة الثانوية، تمييزا لها عن “التربية الإسلامية” في التعليم الأساسي.
- اعتماد النصوص كأساس للدروس كما هو الحال في مادتي الفلسفة والعربية.
- تدريب التلاميذ على شرح النصوص وبناء الأفكار من خلالها.
- اقتراح أثر لكل مستوى للتعرف على فكر كاتب من خلال كتابه.
- عرض الآراء المتعددة في الموضوع الواحد (مثل مواقف الفرق الإسلامية من القدر أو الحكم، وآراء المصلحين حول المرأة). تكريسا لحق الاختلاف ومقاومة التعصّب للرأي الواحد.
- إدماج ثقافة حقوق الإنسان ضمن البرامج وبثها ضمن المواد الدراسية.
وكلّ ذلك لم يكن له علاقة بما سُمّي لاحقًا بـ “تجفيف منابع التدين”. والوثائق هي الفيصل. وقد استقال النيفر ومن معه حين تزايدت الضغوط على الوزير، وتردّد في مواصلة خطوات الإصلاح المتفق عليها.
ثالثًا: فوائد جمّة
صلاح الدين الجورشي شخصية اعتبارية غنية ومؤثرة، وكتابه أكبر شاهد على ذلك، نصًا وصورة.
فهو عصاميّ التكوين، موهوب في الكتابة، متمرّس بها، مما جعل أسلوبه جذابًا مشجعًا على التهام الصفحات دون ملل. لذلك أنصح بمطالعة هذا الكتاب والاستمتاع به.
وفي مضامين الكتاب فوائد جمّة، لا مجازًا بل حقيقة. فهو يكشف عن تجربة شخصية غنية لإرادة صلبة، نجحت في مواجهة العراقيل من عاهة الجسم، إلى الظروف القاسية، إلى الأوضاع السياسية والاجتماعية.
وفي الكتاب تأملات وخواطر مهمة: عن العنصرية الكامنة في تفكير التونسيين، عن الروابط العائلية والاجتماعية، عن قضايا وجودية ودينية، وعن العلاقات السياسية والمجتمعية.
كما أنه يقدّم شهادات مهمة من الداخل عن نشأة التيار الإسلامي في تونس، وعن المشهد الإعلامي، وعن كواليس ومحطات مفصلية من تاريخ تونس المعاصر، فضلًا عن تحاليله السياسية لفترة ما قبل الثورة وبعدها.
خاتمة
كان كتاب “أقواس من حياتي” ثريًا ومفيدًا. غير أن بعض الجوانب غابت عنه، مثل:
- التجارب العربية للجورشي خارج تونس.
- نشاطه في شبكات حقوقية وفكرية وإعلامية مهمة.
- النقد الذاتي لتجربته الشخصية، ولتجربة الإسلاميين التقدميين.
- تقييم دور المجتمع المدني التونسي بعد 25 جويلية 2021، وخاصة دور الرابطة واتحاد الشغل والجمعيات المهتمة بـ”التأهيل الديمقراطي للمجتمع،” وقد صدر الكتاب بعد أكثر من ثلاث سنوات من هذا الحدث، وكان من المناسب التوقف عند هذه المرحلة.
تلك وغيرها من المسائل، يمكن أن تكون موضوع طبعة مزيدة ومنقحة من هذا الكتاب، أو جزءًا ثانيًا يستكمل الأقواس التي لم تأخذ حظها.
ونسأل الله للصديق صلاح الدين الجورشي الصحة وطول العمر./.

مقالات ذات صلة

25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25