أقصر الطرق وأضمنها..”ملّخر”
بات واضحا أنّ أزمة تونس السياسية، صارت عائقا أساسيا لحلّ مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية، التي تظلّ أولوية عموم المواطنين. ويبدو تعليق بتّ صندوق النقد الدولي في القرض الحيوي المطلوب من تونس، عنوانا بارزا لذلك. وكلما تأخّر الحلّ السياسي تضاعفت مخاطر الوضع الاقتصادي والاجتماعي وتداعياته.
فبتفاقم أزمة المالية العمومية وتراجع النمو وانهيار الدينار، وفي ظلّ أزمة اقتصادية عالمية متفاقمة، ستتفاقم مصاعب حياة عموم التونسيين. إذ يستمر ارتفاع نسبة التضخم، والغلاء المشط في المعيشة، وندرة بعض المواد الأساسية. وتتردّي الخدمات العامة، ويزداد الفقر وترتفع نسبة البطالة، وتضعف القدرة الشرائية، وتغلق مؤسسات الإنتاج، وتتضرر مختلف الفئات الاجتماعية.
تتّسع دائرة المعارضين لحكم قيس سعيد الفردي، والمطالبين برحيله، سيما بعد الانتفاضة الشعبية الصامتة بعزوف أكثر من 90 % عن التصويت في انتخابات 17 ديسمبر 2022، بما اعتبره البعض “سحبا للوكالة” من الرئيس. إضافة إلى تغيير مواقف أطراف عديدة ممّن أيّدوا 25 جويلية في بداياته، بعد أن جمّع سعيد كل السلطات بيديه، وأخذ من الوقت ما يكفي ليُبين عن فشله في حلّ مشاكل التونسيين ذات الأولوية، بل عجزه البنيوي عن ذلك. علاوة على الرافضين لمسار 25 جويلية برمّته باعتباره “انقلابا”، و أنّ “ما بُني على باطل فهو باطل”.
وفي مقابل هذا الموقف، يتمسّك قيس سعيد وأنصاره، بشرعية انتخابه رئيسا بأغلبية غير مسبوقة (حوالي ثلاثة ملايين)، وأنّه المعبّر عن إرادة الشعب التي عكستها شعبيته قبل 25 جويلية وبعده. ويبنون على ذلك سردية “تصحيح مسار الثورة” و”عدم العودة إلى الوراء” و “تطهير البلاد” وتدشين مرحلة تاريخية غير مسبوقة ب”مقاربات جديدة”.
وفي ظلّ استمرا دعم أجهزة الدولة للرئيس قيس سعيد والاعتراف الخارجي به، رغم الانتقادات. وبناء على الهوّة المستمرة بين المجتمع السياسي المنظّم، والمجتمع المهمّش من عموم التونسيين، وأزمة ثقة الأغلبية بعموم السياسيين، واستحضرا لما أكّده سعيد مرارا من عقيدته في اعتبار الحكم “أمانة” واعتبار شخصه “مشروع شهادة”. تبدو دعوات معارضيه إلى “رحيله” بالاستقالة أو غيرها غير ذات دلالة في الواقع. وتتزايد مخاطر الوضع وضبابية المشهد.
وعليه فإنّ “المبادرات السياسية” الكثيرة التي تتحدّث عن “ما بعد قيس”، تبدو أقرب إلى التمنّي الذي يفيد الاستحالة. إذ مفاتيح رحيل سعيد ليست بيد معارضيه. فضلا على أنّ المطلب الجامع للمعارضة على اختلافاتها وتجاذباتها التي لم تتوقّف، لا يتعدّى “رحيل شخص قيس سعيد” وما زاد على ذلك فهو من عناصر الخلاف والتفرقة. على غرار “التمسك بالشرعية” أو “دستور “2014” أو “إقصاء شخص أو طرف ما”… ف”الشرعية” و”السردية” و”شروط الحل” من عناصر الخلاف ومواضيع الصراع.
وفي المقابل يتأكد فشل مراهنة حكم قيس سعيد على ترذيل معارضيه ووصمهم وتخويفهم وتوظيف القضاء لملاحقتهم، وربح الوقت في إنهاكهم وتقليص أعدادهم. فقد ازدادت المعارضة قوة وصلابة مع مرور الأشهر وارتفعت نبرة خطابها. ونجحت بعد سنة ونصف في تهرئة شعبية قيس سعيد. وممّا ساعد على ذلك أسلوب حكمه الفردي وإخفاقه في تحسين أوضاع الناس المعيشية. حتى حصل الانطباع العام بأن “قيس سعيد أهم عدوّ لنفسه.”
ولهذه الاعتبارات الأساسية جميعا، وغيرها ممّا يطول الحديث فيه، يبدو أنّ أقصر الطرق وأضمنها وأكثرها موضوعية لحلحلة الأزمة السياسية، تتمثل في العودة المباشرة إلى الشعب صاحب السيادة الأصلية، عبر انتخابات رئاسية سابقة لأوانها، لا تقصي أحدا، ولا شروط قبلية فيها غير تحديد موعدها وضمان شفافيتها وتعدّديتها. وهذا هدف ليس بلوغه بعزيز البتّة، إذا اجتمعت الكلمة عليه وتضافرت جهود مختلفة على الوصول إليه.
فإن حظي قيس سعيد بالأغلبية، فبذلك تكون له شرعية الصندوق مجدّدا غير القابلة للطعن، ليمضي في خياراته. وليس أمام مخالفيه إلا الاعتراف والانحناء للإرادة الشعبية، والاستمرار في المعارضة القانونية في انتظار استحقاق انتخابي جديد. وإن فاز أحد المترشحين المنافسين لقيس سعيد، من معارضي مسار حكمه، فمعه تبدأ مرحلة جديدة، تعكسها مضامين الحملة الانتخابية للرئيس الفائز وتطلّعات الأغلبية التي صوّتت له.
هذا الرأي الذي يُلزم ممضيه وحدهم. يتقاطع جزئيا أو كليا مع ٱراء أخرى مُعلنة. ونراهن على معقوليته وموضوعيته ووضوحه. ونعرضه للتفاعل ونعدّه أقصر وقتا وأضمن نتائج للخروج من الأزمة السياسية الخانقة، وفسح المجال لمعالجة الأزمة الاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية التي تظل أولوية. ففترة سنة ونصف من التجاذبات الحادة وخطابات الاحتراب وتعطيل الحياة العامة بعد 25 جويلية 2021، تعدّ فترة طويلة جدّا، لم تعد تقبل مزيد التمديد. وكلما عجّلنا بالحلّ، قلّصنا المخاطر وقلّلنا الخسائر وفتحنا آفاقا للأمل والإصلاح. ولهذا الاعتبار رجّحنا الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها. ومن “تقطع الديمقراطية أنفه” عبر الانتخابات الشفافة، لا يُعَدُّ “أَجْدَعَا”.
وختاما نروم التأكيد على أنّ هذا الاقتراح يأتي بعد تأمّل في تعقيدات المشهد السياسي. وهو تفاعل غير مباشر مع مجمل المبادرات المعروضة للحل. لكنه مقترح مسكون بالواقعية، ولا يكترث ب”العنتريات” المستندة إلى “سرديات” مختلفة حول الصراع السياسي، بين “الانقلاب” و”التصحيح” وما بينهما من وجهات نظر في قراءة ما حصل مساء 25 جويلية 2021 وما سبقه وما تلاه. فليحتفظ كل بسرديته، ولكن لنجتمع على حلّ ولا نرتهن الوطن.
وهو أيضا مقترح لترجيح كفّة الخيار الوطني في الحل، قبل أن تصبح العملية السياسية نهائيا، ورقة خارجية وإقليمية بالكامل، أكثر منها شأنا داخليا.
ومع كل ذلك، لسنا مع مصادرة المستقبل، إذ تظلّ احتمالات أخرى للتغيبر المتأكّد ممكنة. لكن نظنّها أطول طريقا أو أشدّ تعقيدا أو أكثر كُلفة، ولا تخلو من مخاطر مُحدقة.
*منشور بجريدة المغرب، بتاريخ 24 جانفي 2023
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25