والصّلح خير.. من المناكفات إلى التوافقات مجدّدا
مرّ صيف 2020 على غرار صيف 2019 حافلا بالحراك السياسي وتواصلت السنتان السياسيتان دون عطلة فاصلة. فبعد الحملة الانتخابية الرئاسية والتشريعية وما تخلّلهما من تجاذبات يستدعيها السياق ويستوعبها، استمرت المناكفات حادّة بعد النتائج ولم تساعد على خلق استقرار سياسي كان ضروريا للخروج من الوضع الانتقالي ومواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تأخرت عن المنجزات السياسية، بل باتت تتهدّدها. فمن إسقاط حكومة الجملي في جلسة نيل الثقة، إلى إسقاط حكومة الفخفاخ بعد أقل من ستة أشهر من تزكيتها، مرورا بالمشادات الحادّة بالبرلمان ومعارك اللوائح، علاوة عن تهريج الاعتصامات ومحاولات تعطيل المجلس، وانتهاء بإسقاط لائحة سحب الثقة من الغنوشي موفّى جويلية، وتمرير حكومة المشيشي بأغلبية مريحة في الفاتح من سبتمبر، وسط توتّر غير مسبوق بين نوّاب الشعب ورئيس الجمهورية، تكون سنة 2019/2020 بهذا الزخم سنة المناكفات بامتياز. ترى هل تكون حكومة غير المتحزّبين فرصة لتراجع الأحزاب حساباتها وتحصي خسائرها وتضع حدّا للمناكفات الحادّة بينها التي تضرّرت منها جميعها؟ وهل من مؤشرات على توافقات جديدة محتملة وعلى أيّة أولويات؟ وهل تكون الهدنة السياسية بعد المعارك الطاحنة فرصة لانصراف الجميع للعمل وتوفير مناخ مساعد على نجاح حكومة المشيشي في مواجهة الاستحقاقات الوطنية المتأكدة، لا سيما الاقتصادية والاجتماعية والصحية والأمنية منها خاصة؟
أجريتُ حوارات عديدة خلال الفترة الأخيرة، وقرأت مقالات وتدوينات واستمعت إلى تصريحات مختلفة، وخلصت إلى أنّ أصحابها من مختلف مواقعهم، باستثناء المأجورين المجنّدين لخدمة أجندات لا يملكون حرية القرار فيا، يقرّون بالخطإ في دفع المشاحنات إلى أقصاها وفي الإساءة إلى الخصم وفي سوء تقدير العواقب. فحرص بعض الأطراف على سبيل المثال على إقصاء النهضة من الحكومة، أدّى إلى إقصائهم هم وربما تسبّب في تداعيات سلبية على أحزابهم. ومراكمة الإساءة في الخطابات باعد المسافات بين الكيانات الحزبية والشخصيات. وصرف وقت طويل أو جهد كبير في المناكفات الشخصية أو الحزبية أساء إلى صورة المشهد السياسي وإلى مؤسسات الدولة أحيانا. وتحوّل رئيس الجمهورية من موقع الجامع والحكم والمرجع، إلى موقع المقسّم والطرف في الخصومة والمثير للجدال، زاد الطين بلّة ولم يساعد على تطويق المشكلات وطمأنة الداخل والخارج.
وفي كل الأحوال فإنّ الخصومات التي لا حظّ للوطن فيها، ولا تنبني على اختلافات في البرامج ولا تباينات في اقتراح الحلول لمشاكل الناس ولا تسهم في تحسين عيش المواطنين، تسيء إلى جميع الأطراف وتزيد في عزوف الناس عن الاهتمام بالشأن العام وتبعدنا عن الأجندة الوطنية وأولوياتها.
يقال أنّ الحرب يُستعدّ لها أو تُخاض لفرض السلم. فهو الأصل وهي الاستثناء. لذلك حريّ بمن تجنّدوا للحرب وانخرطوا في المعارك الطاحنة للسنة السياسية الماضية أن يجنحوا للصلح فهو خير للجميع وأن ينصرفوا للعمل مستقبلا. وقد يكون التصويت لحكومة المشيشي بأغلبية مريحة مساعدا على ذلك. فالتحالف البرلماني الأغلبي بين كتل النهضة وقلب تونس والكرامة والمستقبل وبعض المستقلين (120 نائب) لم بخف دعمه لتمرير الجكومة. وفي التقائه الموضوعي في منح الثقة لحكومة المشيشي مع نواب من كتل أخرى على غرار كتل الإصلاح والوطنية وتحيا تونس، فرصة لفتح قنوات الحوار مجدّدا والبناء على رصيد التقاء في محطات سابقة، وتقدير مشترك للأولويات، من أجل خلق حزام برلماني واسع يضمن الاستقرار في الحكومة وفي مجلس نواب الشعب ويوفر قنوات تعاون بين القصبة وباردو، ويدفع إلى شراكة وتعاون مع قرطاج في إطار من التكامل بين مراكز الحكم في الدولة وعملا بمقتضيات الدستور واحترام الصلاحيات.
فالدورة النيابية الجديدة التي يوشك انطلاقها، إذا اجتمعت خلالها كلمة الحزام البرلماني على سبيل المثال على أولويات، على غرار تعديل قانون المحكمة الدستورية واستكمال المنتخبين من البرلمان بها، وتعديل القانون الانتخابي وتنقيح النظام الداخلي للمجلس ودعم حرية الإعلام بتعديل المرسوم 116 وجعله أكثر انسجام مع روح الدستور وبقية القوانين المنظمة للحياة العامة لا سيما مرسومي الاحزاب والجمعيات، يمكن أن تحسم هذه المسائل بسرعة فتخلق مناخا إيجابيا سيؤثر لا محالة على بقية المشهد ويغير صورة البرلمان لدى الناخبين. كما يمكن لهذا الحزام البرلماني الأغلبي أن يشكل سندا للحكومة من أجل ضمان تمرير مشاريع قوانينها في الجلسات العامة وتقديم الدعم السياسي اللازم لها في إنفاذ الإصلاحات المستوجبة في المجال الاقتصادي لا سيما بعد التداعيات السلبية الخطيرة لكوفيد 19.
فإذا تعزّز التعاون بين باردو والقصبة، يمكن التفاؤل باستقرار سياسي وأوضاع أمنية أفضل، بما يساعد على تحسين مناخات توسيع الحوار بين الأحزاب ومختلف الفاعلين من أجل مصالحة وطنية حقيقية، تنصف ضحايا الاستبداد والفساد وتعزّز الوحدة الوطنية ببناء الثقة بين مختلف الاطراف واستبعاد منطق الإقصاء والاستئصال نهائيا ومحاصرة الفاشية ودعم مسار الانتقال الديمقراطي والنهوض الاقتصادي والاجتماعي.
لا تزال الفرص قائمة للتدارك وتصحيح المسار رغم حجم الأخطاء الكبير في المرحلة السابقة. فمشاكلنا لا تحلّ بالمناكفات ومعارك الصلاحيات، بل بتعميق الحوار وبناء الثقة بين مختلف الفاعلين مهما تباينت آراؤهم. وقد أبانت تجربة السنوات الماضية أنّ النخب السياسية على أخطائها العديدة توشك أن تدفع بالبلاد إلى حافة الهلاك، لكنها تتدارك في الوقت المناسب. حتى ظلّت تونس مهد الثورات العربية والاستثناء الإيجابي في النجاح. ولذلك نظلّ متفائلين في مطلع سنة برلمانية وساسية جديدة دشناهما بحكومة جديدة وآمال عريضة في النجاح.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 172، تونس في 10 سبتمبر 2020
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25