هل يحبّ التونسيون بلادهم ويكرهون دولتهم؟
نستعمل مفهوم البلاد ولغرض هذا المقال للدّلالة عن الانتماء للوطن (الأرض والتاريخ والثقافة)، ومفهوم الدولة للدلالة عن المؤسسات الرسمية التي ترمز للحكم وفي مقدمتها الإدارة وفضاءات الخدمات العمومية خاصة. ونطرح سؤال هل يحبّ التونسيون بلادهم ويكرهون دولتهم؟ لمعالجة مفارقة تشهد عليها أمثلة ومؤشرات عديدة في الواقع المعيش لعموم التونسيات والتونسيين، بين وشائج التعبير عن التعلّق بالوطن والاعتزاز بالانتماء إليه والذود عن مصالحه، وبين التبرّم ممّا هو رسميّ والتضجّر من سوء خدمات المرفق العمومي وانتقاد الإدارة على وجه الخصوص.
تعبيرات صادقة عن حبّ البلاد ..
ليست مباريات المنتخب الوطني لكرة القدم على وجه الخصوص في نهائيات كأس الأمم الإفريقية خلال هذه الفترة الأخيرة، وسائر الرياضات واللقاءات في مختلف الميادين، التي يكون فيها طرف تونسي في مواجهة منافس من كان، سوى مناسبات لتعبير عموم التونسيات والتونسيين بصيغ مختلفة، لا تخلو من تجدّد وإبداع، عن حرارة مشاعرهم الوطنية وعمق تعلّقهم ببلادهم. وكم تتضاعف مشاعر الانتماء لدى من يبتعدون عن أرض الوطن لسبب أو لآخر. وفي المناسبات الوطنية، لا سيما ما يرتبط منها بالمحن، على غرار الكوارث الطبيعية، أو الاعتداءات الإرهابية، تتجلى مشاعر التضامن الوطني ويرتفع منسوب الولاء. وفي التعبيرات الثقافية المختلفة ومناسبات الأفراح والأعياد خاصة، تتكثّف مظاهر الانشداد للأرض والتاريخ والتقاليد في الأكلات واللباس والموسيقى والغناء والشعر والحكايات والسرديات، والمعالم الأثرية والأماكن السياحية الجميلة والطبيعة الخلابة، وقد تضيق دوائر الانتماء في هذه المستويات، مما هو وطني إلى ما هو جهوي او محليّ حتّى، وكلها مظاهر مختلفة للتعبير الصادق والعميق عن حبّ “البلاد”.
مزاج سلبي مُتفهّم ورغبة في الهجرة ..
في مقابل التعبيرات التونسية الإيجابية المختزلة فيما سبق، عن روابط الانتماء التي ذكرنا بعضها، يمكن أن نعدّد مظاهر أخرى كثيرة عن التعبير السلبي عن مشاعر التبرّم من الانتساب إلى “تونس الدولة” والتضجّر من الإساءات اليومية المخلفة التي يسبّبها العيش على هذه الارض.
فمن يقصدون المستشفيات العمومية بالعاصمة والمدن الكبرى، من سكان القرى والمدن الداخلية خاصة، يكتوون يوميا بنيران الزحمة وطول الانتظار وتباعد المواعيد وغياب المرافق الدنيا للراحة وحفظ الكرامة، والاستخفاف بصحتهم بتلف ملفاتهم الطبية أو عدم إرشادهم أو إهانة مُسدي الخدمات الإدارية لهم، أو وانعدام اللوازم الدنيا للعلاج أحيانا مثل مقياس حرارة الجسم أو الضميدة للجرح أو الأدوية الأساسية لتسكين الأوجاع. ومن يعاينون ما يحصل بمرافق الصحة العمومية، أو يتابعون ما يحصل بها من خلال وسائل الإعلام، يصيبهم القرف والذعر، من حجم التجاوزات والسرقات للأدوية والمعدّات والأموال، والتعدّيات التي وصلت حدّ الكوارث أحيانا، على غرار موت الرضّع.
ومن يشقون يوميا بطول انتظار وسائل النقل العمومي وعدم احترام مواعيدها المعلنة على الورق، وزحمة ركوبها، ورداءة حالتها المادية، وسوء أخلاق بعض القائمين عليها أو المستعملين لها، وحجم الاعتداءات المادية والمعنوية بها. ومن يقفون يوميا بطوابير مكاتب البريد أو مراكز خدمات صناديق الضمان الاجتماعي (الكنام خاصة)، ومن يتردّدون على مختلف الإدارات العمومية بالمحاكم المختلفة والقباضات المالية وبالبلديات والولايات والمندوبيات الجهوية، ويعاينون التعقيدات الإدارية والتسويف وسوء معاملة مُسدي الخدمات لهم، واعتداءات طالبي الخدمة على الموظفين أحيانا، يلعنون الإدارة ويستحيون من أنفسهم لثقل ما يلحقهم من إهانة. ومن يقفون كل سنة دراسية على مزيد انهيار المدرسة العمومية، والأزمة العميقة التي تستفحل بها والعلل التي تنخرها في مختلفات مستوات التعليم، يدركون أكثر من غيرهم حجم الكارثة الوطنية والمخاطر المحدقة بمستقبل الأجيال.
ذاك غيض من فيض كما يقال، لنتفهم المزاج السلبي لدى عموم المواطنين حين يلتقون المسؤولين، والنبرة السلبية في حديث الناس اليومي عن الدولة مرموزا إليها بالإدارة، والتبرّم من المحيط والرغبة في الهجرة والمغادرة، ولو نفسيا. حتى أنّ بعضم ينكر انتماءه الرمزي ل”تونس الدولة”، وهو الذي يقيم على ترابها ويخضع لقوانينها ويعيش من أجر وظيفته الذي تدفعه الدولة له. ويعكس الشباب خاصة مشاعرهم السلبية تجاه الدولة من خلال مضامين أغاني “الراب” الأكثر تداولا، والمشحونة عنفا لفظيا، وكذلك بعض العبارات “الحائطية” التي تشي بإدانة عامة لكل ما هو رسمي، واليأس من كل أصحاب المسؤولية، وكره المكان وظروف العيش، والرغبة في “الحرقة” والإقامة وراء البحر.
“كلكم تبكون فمن سرق مصحفي؟”
ممّا يبدو طريفا ولافتا، وما قد لا ينتبه له المواطنون عامة، في خطابهم السلبي تجاه الإدارة وسوء المعاملة أو الخدمات، هو تبادل الأدوار على هذا الصعيد. فالموظف بإدارة البريد على سبيل الذكر لا الحصر ينتقد خدمات موظفي البلدية، والموظف بالتعليم ينتقد أداء موظفي الصناديق الاجتماعية، وبعض التجار وأصحاب الأعمال لا تروق لهم خدمات الديوانة، والجميع يشتكون من خدمات النقل والصحة. ولسان حالهم يلخصه قول الإمام الأشعري وهو ينتقد سلوك تلاميذه “كلكم تبكون فمن سرق مصحفي؟”
استعادة الوطن المخطوف ..
في ظلّ حكم الاستبداد تمّ اختطاف الوطن، فصار الناس يتبرّمون حتّى من رفع الراية الوطنية (العلم) التي أضحت ترمز أكثر للحاكم المستبد والحزب المحتكر للحكم (الشعبة). انكفأ المواطن على نفسه وضعف انتماؤه للوطن، فتفشّت اللامبالاة وعزف الناس عن المشاركة في الحياة العامة واستسلموا إلى ضرب من القدرية وفقدوا كل أمل في تغيير الأوضاع وسكنهم الإحباط. فالسياسة شأن لا يعنيهم، بل هي خطر يجب الحذر منه، والصراع بين الحكم والمعارضة، “صراع على الكراسي” ومن أجل مصالح شخصية لا ناقة لهم فيه ولا جمل. والديمقراطية والانتخابات والمشاركة والمواطنة…كلمات جميلة تثير ضحكهم، وهي أقرب للشعارات الرنانة، وإن كان لها صلة بالواقع ففي ربوع غير ربوعهم.
وبعد ثورة الحرية والكرامة استعاد الشعب وطنه المخطوف، فأمسى الناس يلتحفون الراية الوطنية في مختلف المستويات وعاد للنخوة الوطنية بريقها. وارتفع منسوب الانتماء لجمعيات المجتمع المدني وللأحزاب السياسية، بحجم غير مسبوق. لكن مع تأخّر تحقيق أهداف الثورة في الكرامة خاصة، وتحسين عيش المواطنين، تراجع منسوب الانخراط في الحياة العامة مجدّدا وضمرت المواطنة وظهر الاستثمار في تبخيس الأحزاب والتيئيس من الثورة ونشر التشاؤم والإحباط. وليست مفارفة حبّ البلاد وكره الدولة سوى أحد المؤشرات القوية على ذلك.
دولة تُسعد مواطنيها فيحبّونها ..
إذا كان الله جلّ وعلا قد تعبّد الناس بتعداد نعمه التي لا تُحصى عليهم، ودعا أهل قريش وعرب الجزيرة عامة، الذين نزل فيهم القرآن إلى أن يعبدوا ربّ البيت “الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف”، فإنّ الدولة التي ينتمي إليها مواطنوها على أساس المساواة في الحقوق والواجبات الأساسية وأمام القانون، كلّما نجحت في خدمة مواطنيها وإسعادهم ازدادت مشاعر الولاء لها والتفاني في خدمتها والذود عليها. فيجتمع حب الناس لبلادهم بحب دولتهم، وتُفعّل المواطنة. والعكس بالعكس.
ولمّا كانت المواطنة حقوقا وواجبات. فإنّ تفعيلها لن يتمّ بتغيير سياسات السلطة فقط، بل بتغيير السلوك المُواطني أساسا للحكام والمحكومين سواء. فلا تتحدد المواطنة من خلال علاقة الفرد بالدولة فقط، بل أيضا من خلال حياة جماعية قائمة على روابط ثقافية وتشريعية وسياسية تقوم على تلازم الحق والواجب، وتقترن بتطور الإنسان وسعيه الدؤوب نحو مزيد من الحرية والمساواة والكرامة، وبترسيخ قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان عن طريق التنشئة الاجتماعية والتوعية المستمرة التي تساهم فيها الأسرة والمدرسة، والمنظمات الأهلية والهيئات الحزبية وكل الفاعلين في المجتمع.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 115 ، تونس في 11 جويلية 2019
https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/66524360_562789834252165_1697145280358514688_n.jpg?_nc_cat=102&_nc_oc=AQmO-Yq7yu0epR30tsMVMwz9Qr28-wLUO_pmfL9hyJOo_7LeEtAEWrJKsJNZsflheEQ&_nc_ht=scontent.ftun3-1.fna&oh=3f21eca539dc7e4081342c2c43e05e6d&oe=5DA72DD3