هل كان التوافق خطأ وخيانة لأصوات الناخبين؟


       يستعدّ حزب نداء تونس لعقد مؤتمره نهاية الأسبوع الحالي في مدينة المنستير التي انطلق منها في 24 مارس 2012،  وفي ذكرى وفاة المرحوم الحبيب بورقيبة أوّل رئيس للجمهورية التونسية، والزعيم التاريخي للحزب الدستوري، الذي يرى حزب النداء نفسه امتدادا له. وإذ نهنئ الندائيين، ونرجو لهم التوفيق في هذه المحطة الوطنية الهامة التي تأخرت، وكان ذلك سببا في مصاعب وتداعيات سلبية على مساري الحزب والبلاد عامة، فإنّا نروم بالمناسبة، تسليط الضوء على موضوع التوافق الذي نقدّر أنه سيكون  من أهمّ المواضيع على جدول أعمال المؤتمر.

       وإذ نطرح سؤال  هل كان التوافق خطأ وخيانة لأصوات الناخبين؟ فإنّا نروم مناقشة عميقة لإحدى السرديّات الدعائية التي كثيرا ما يتمّ ترديدها، ونعتقد أنّها على غرار سرديّات أخرى قد يستدعي سياق الحديث بعضها، لا تصمد أمام الأدلّة التي تفنّدها من أكثر من زاوية. وأنّ وضوح الرؤية وتنقية الأجواء يستدعيان رفع اللبس حول مثل هذه السرديّات في أفق الاستحقاق الانتخابي العام نهاية 2019.

       خلال الأزمة السياسية الأخيرة، وفي ظلّ عودة التوتّر والاستقطاب بين الفرقاء، وعقب إعلان رئيس الجمهورية في حديثه التلفزي مساء الإثنين 24 سبتمبر 2018 نهاية توافقه مع حزب النهضة، رقص البعض، على اختلاف مواقعهم، طربا لحصول ذلك، وراحوا ينظّرون له، ويعمّقونه،  بل ويتوجّسون من أيّ احتمال لعودة التفاهم. والمؤسف والعجيب في نفس الوقت، أنّ شركاء التوافق من النداء التاريخي ومن المنسلخين عنه، يردّدون خطابات يتبرّمون فيها من التوافق سابقا ولاحقا، ويعدّونه من الخطايا التي لا تجب أن تتكرّر.

       ليست المشكلة في قبول التوافق أو رفضه، فهذا خيار سياسي يحسمه المعنيون، ويتحمّلون تبعاته، ولكن المشكلة في زعم أنّ التوافق خيانة لأصوات الناخبين، ومغالطتهم ثانية في وعدهم بأنّ لا يتكرّر ذلك.  ففي ظلّ القانون الانتخابي المُعتمد، الذي لا يتيح أغلبية لحزب واحد، واستنادا إلى مقتضيات الدستور الجديد، ونظامه السياسي خاصّة، وحاجة بعض مؤسساته إلى ثلثي نوّاب الشعب، يكون التوافق البرلماني والحكومي من لوازم الحكم التي ليس دونها بدّ.

       وحين يصوّت أغلبية الناخبين التونسيين في 2014 لحزب النداء أوّلا، ولحزب النهضة ثانيا، مع فارق بسيط بينهما، وبفارق كبير عما يأتون بعدهما، تكون إرادة الناخبين الضمنية، تجسيم التوافق في الحكم بين الحزبين الرئيسيين وليس العكس. إذ لو كانت الأغلبية حاسمة أمرها في منح الثقة لطرف واحد، وأرادت إقصاء حزب النهضة بالذات، لعكست ذلك صناديق الاقتراع. ومن المغالطة فعلا زعم خلاف ذلك ماضيا ومستقبلا. والحال أنّ استطلاعات الرأي تفيد باحتمال تكرّر السيناريو نفسه، بصرف النظر عن الترتيب وعدد الأحزاب المعنية بالتوافق. فحزب النهضة تؤكد المؤشرات أنّه يظلّ فاعلا رئيسيا في جميع الاحتمالات. وكذلك حزب النداء الذي ذكر مديره التنفيذي حافظ قائد السبسي في حوار له بجريدة القدس العربي نهاية الأسبوع المنقضي أنّ “حزب النداء هو حزب كبير وولد في ظروف خاصة”  وأنّه “قد فتح الأبواب لعديد الكفاءات والشخصيات من كل ولايات الجمهورية للالتحاق به، وفي أسبوعين سجلنا أكثر من 100 ألف انخراط وهذا رقم مهم في فترة وجيزة”. وأنّ المؤتمر”سيحضر فيه رئيس الجمهورية وسيلقي خطابا بصفته الرئيس المؤسس للحزب”. ورجّح أن يرشّح المؤتمرون الباجي قائد السبسي للانتخابات الرئاسية القادمة.

       ليس التوافق تحالفا برلمانيا وحكوميا فقط، أملته نتائج الانتخابات، بل التوافق يعني أيضا التفاهم والتعايش بين المختلفين واستبعاد التنافي والإقصاء، ويهدف إلى الإدماج بدل التهميش. ويقوم التوافق على إدراك المُشترك والبناء عليه وحسن إدارة المختلف، ولا يأخذ ضرورة بموازين القوى الفعلية. وقد ارتبط مفهوم التوافق خلال الفترة الأخيرة بشخصيّتي الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي بعد لقاء باريس الشهير سنة 2013 لإنقاذ التجربة التونسية من أزمة سياسية حادة تردّت إليها الأوضاع، عقب الاغتيالات السياسية واشتداد الاستقطاب وتضاعف التآمر الداخلي والخارجي على الثورة. وامتدّ التوافق ليشمل لاحقا حزبي النداء والنهضة، الغريمين المتنافسين في انتخابات 2014، والمتحالفين بعد ذلك. فكانت تجربة الحكم المشترك وسرديّة “الاستثناء التونسي” أمام العواصف التي عبثت ببقية تجارب ثورات الربيع العربي.

       والحقيقة أنّ التوافق ليس اكتشافا بعد الثورة، بل صيغة معتمدة ورائجة قبل ذلك. ويكفي أن نستحضر بالمناسبة ما كان يحصل بالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان منذ تأسيسها وإلى قيام الثورة. فقد كان مصطلح “الكونسونسيس” (Consensus) قبل أن تتعرّب أكثر لغة النخب التونسية، آلية معتمدة في انتخاب الهيئة المديرة الوطنية وضمان تمثيل مختلف العائلات الفكرية والسياسية فيها. وهذا ما أعطى الرابطة مكانة وأكسبها حصانة وجعلها من أهمّ مدارس التعايش الديمقراطي. وقد أثّرت الرابطة بهذا المنهج أحيانا على فضاءات مدنية أخرى وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل. وتفيد التجربة أنّه كلما انعدم التوافق، ضعفت المؤسّسات.

       وقد تمّ في ضوء التقارب بين النداء والنهضة،اشتغال البعض على توافق أوسع، بالسعي إلى مصالحة تاريخية بين الدستوريين والإسلاميين عموما، بعد عقود من التنافي والصراع، في إطار تسوية تاريخية لقضايا خلافية فكرية وسياسية، وعدالة انتقالية ومصالحة وطنية عادلة وشاملة. وكان المؤمّل أن يتوسّع التوافق في حكومة وحدة وطنية،  تحتاجها تونس لاستكمال نجاح مسارها الديمقراطي السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

       ولعلّ من الجحود إنكار ما تحقّق من مكاسب سياسية هامّة للبلاد ولأحزاب الحكم، خلال السنوات الماضية، بفضل التوافق الذي صمد رغم كلّ الفخاخ. ولذلك يبدو من علامات التراجع السياسي وتكرار الأخطاء، التخلّي عن التوافق وليس العكس. ولنا في تعقيدات المشهد السياسي منذ مدّة،  مؤشرات على ذلك.

       ومن السرديات الدعائية المضلّلة ذات الصلة أيضا، الزعم بأنّ التحوّلات الإقليمية، لا سيما ما حصل بمصر، جعلت النهضة تقبل بالتوافق لإنقاذ نفسها. ولذلك تنازلت عن قيادة الحكم في مطلع 2014 لتفسج المجال لحكومة محايدة تعدّ للانتخابات. وتقتضي الموضوعية بعد مسافة عن الأحداث، الإقرار بأنّ ما يوصف بإنقاذ النهضة لنفسها كان إنقاذا للوطن وللتجربة الديمقراطية التونسية. وما حصل بمصر في كل الأحوال ليس مثال نجاح، أمّا التجربة التونسية فتعدّ مثالا يُحتذى، ولذلك تلقى دعما إقليميا ودوليا واسعا، مع استثناءات بالطبع.

              لئن كرّر حافظ في حواره أنّ التحالف مع النهضة أملته نتائج الصندوق، لأنّ النداء لم يجد التحالف الذي يمكنه من تشكيل حكومة تنال موافقة البرلمان، فقد أضاف أنّ ذلك أيضا أملته المصلحة الوطنية. ونأمل أن يكون مؤتمر المنستير فرصة للتفكير العميق وتقليب الزوايا لإقرار خيارات، تقفز فوق المشاحنات الظرفية والتجاذبات، لتؤسس لحكم مستقرّ تحتاجه تونس بعد انتخابات 2019. وفي انتظار مخرجات مؤتمر النداء، وما سيسفر عنه مؤتمر حزب تحيا تونس نهاية الشهر الحالي، وما ستفضي إليه الندوة السنوية الثالثة لحركة النهضة خلال شهر جوان، وما يعرفه المشهد السياسي من حراك حثيث، تظلّ الحاجة متأكّدة إلى تثبيت خيار التوافق، وتعزيزه بما يلزم من التأسيس النظري، وبناء الثقة بين الفاعلين السياسيين، مهما تنوّعت الاختيارات في البرامج، ومهما اقتضته متطلّبات التنافس الانتخابي.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 102، تونس في 04 أفريل 2019

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: