هل حركة النهضة جزء من “السيستام”؟

تفاعلا مع مؤشّرات نتائج بعض استطلاعات الرأي حول نوايا التصويت في انتخابات نهاية هذا العام، وقياسا على حالات حصلت فيها نتائج مفاجئة في انتخابات عامّة ببلدان أخرى خلال الفترة الأخيرة، يجري حديث بعديد منابر الإعلام التونسية المختلفة، حول ما يسمّى بأزمة “السيستام” وعزوف الناخبين عن رموزه وأطرافه، واحتمالات صعود أحزاب أو أشخاص في التشريعية أو الرئاسية، وتقدّمهم في النتائج على حساب أحزاب وشخصيات “السيستام”. وفي هذا السياق من التحليل واستشراف المستقبل، يحصل اللّبس أو التلبيس في كثير من المصطلحات والمعطيات، ومن أهمّها ما المقصود بالسيستام؟ وما هي مكوّناته والأطراف المعبّرة عنه في منافسات الاستحقاق الانتخابي القادم ببلادنا؟ وما مدى مصداقية ما يتمّ الترويج له في هذا السياق لاستشراف اتجاهات التصويت المقبل؟ ذلك بعض ما نروم التوقّف عنده.
يثير مصطلح “السيستام” التباسات عديدة في الاستعمال. فهو منقول من لغة أخرى إلى العربية، ويترجم بأكثر من مفردة، وهو أيضا مصطلح يُنقل من حقل معرفي أو دلالي إلى حقول أخرى، ويتأثّر بخصوصيات كل حقل. فإذا ترجمنا “السيستام” إلى “منظومة” كما يجري الاستعمال في الغالب، فإنّ الفروق لا تخفى حين نتحدّث عن منظومة معلوماتية، أو غذائية، أو ميكانيكية، أو تربوية أو صحية أو عسكرية، وما إلى ذلك. وحين نتحدّث عن منظومة سياسية أو منظومة حكم فالأمور تبدو أعقد بالتأكيد. إذ يذهب البعض على سبيل المثال إلى جمع أطراف الحكم والمعارضة تحت تسمية “المنظومة السائدة”. وقد ترتبط المنظومة بفترة زمنية محدّدة. مثل منظومة الفترة التأسيسية (2012 ـ 2014)، أو منظومة التوافق (2014 ـ 2019). وحتى لا تأخذنا التدقيقات المعرفية إلى تفاصيل ليس مجالها، نتوقّف عند الاستعمال الإجرائي للمصطلح في سياق استشراف الاستحقاق الانتخابي التونسي القريب.
جرى بعد 14 جانفي 2011 استعمال واسع لمصطلح “السيستام” لوصف “المنظومة القديمة” للحكم، التي قامت ضدّها ثورة الحرية والكرامة، وكانت حملة “ديقاج” (ارحل) عنوان قطيعة معها، قبل أن تختلف الآراء لاحقا في التعامل مع مكوناتها ورموزها. وتمّ في السياق التأسيسي الحديث عن “الدولة العميقة” وأساليبها المختلفة في عرقلة حكم “الترويكا” بقيادة حزب النهضة. وفي سياق الانتقال الديمقراطي وما يستوجبه من مصالحة وطنية شاملة، وتحت مظلّة “التوافق” التي دشنها لقاء باريس بين الباجي والغنوشي في 15 أوت 2013، وبعد تقدّم حزب نداء تونس في انتخابات 2014، جرت عودة تدريجية لعديد رموز المنظومة القديمة إلى مواقع السلطة. بل استعاد وزراء لبن علي نفس الحقائب التي كانوا يتولّونها حين قامت الثورة.
وفي ظلّ هذه التطوّرات، التي اكتفينا بأبرز مؤشراتها، وبصرف النظر عن الحديث في أسبابها وتداعياتها، ظلّ البعض يحذّرون ممّا يرونه من “خطر تسلّل حزب النهضة إلى مفاصل الدولة” كما يقولون. ولا تزال تتعالى من حين لآخر أصوات تحذّر من تعيينات لنهضويين ، وكأنهم “غزاة” أو مواطنون من الدرجة الثانية؟ أو كأنّ أصحاب هذه الأصوات أولى بالمواقع في الدولة منهم؟ كما تتعالى أصوات أخرى منادية بإقصاء النهضة، فهي في خطاب هؤلاء، ملفّ أمني وليست منافسا سياسيا، والسجون والمنافي هي الأماكن التي تليق بقياداتها وأنصارها. بل مارس بعضهم ضغوطا على الحكومات تحت شعار “مراجعة التعيينات” لاستبعاد المحسوبين عن حزب النهضة من المسؤوليات، رغم استمرار مشاركة النهضة في مختلف تلك الحكومات.
فحركة النهضة مرفوضة من “السيستام” قبل الثورة وبعدها أيضا .فقد ظلّت محلّ ملاحقة أمنية وقضائية معلومة، منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي إلى انتصار ثورة الحرية والكرامة مطلع سنة 2011. وكانت ملاحقتها أبرز عناوين استبداد الحكم. ويرى البعض في توقّفت الملاحقة الأمنية والقضائية لها وضعا مؤقتا. وهم يعملون بما أوتوا، لفرض ملاحقة فكرية وسياسية للنهضويين، للتحيّل في إقصائهم مجدّدا.
ومن مفارقات دهرنا، وسريالية مشهدنا السياسي والإعلامي التونسي، أن يتحوّل بعض من يعدّون من أسوإ تعبيرات المنظومة القديمة، على غرار عبير موسي وأنصارها، باسم “أحزاب جديدة” أو تحت عنوان “مستقلين” أو “مجتمع مدني” أو “حراك مواطني” إلى ممثّلين للقوى “الجديدة” في مواجهة “السيستام” الذي تُحشر حركة النهضة ضمنه.
ف”المنظومة” تحيل في مختلف تعريفاتها على مجموعة من المركّبات والأجزاء التى تعتمد فى عملها على بعضها، طبقاً لتخطيط محدّد، بما يساعدها على الوصول إلى أهداف بعينها. وهي تشترط الارتباط والتكامل بين عناصرها، ويمثّل الهدف المطلوب محورا رئيسيا لمختلف انشطنها الفرعية. وتحتاج المنظومة إلى بعض الوقت لكي تترسّخ في الواقع وتؤثر فيه. وهذا المعنى يتحقّق بوضوح في منظومة حكم بن علي الذي كان على رأس هرمها، ويتحقق بقدر أقلّ في وضع المنظومة القديمة بعد 2011، التي تفكّكت بغياب رأس هرمها، لكنها استعادت ديناميكيتها بتوحّدها على الهدف، وهو استبعاد من جاءت بهم الثورة التي لا يعترفون بها، واستعادة الحكم الذي “افتك منهم”، والاشتغال بكل الوسائل وفي إطار من التكامل على تحقيقه. ولا تُفهم الخلافات والانشقاقات وتعدّد العناوين في هذه المنظومة، إلاّ ضمن الأجندات الفئوية أو الشخصية التي تؤثّر في البيت الداخلي، ولكنها لا تنال من الهدف العام المشترك.
وفي المقابل لا يتحقّق معنى المنظومة في المشهد السياسي الجديد الذي يحاول فرض نفسه بعد الثورة، سواء في إطار الائتلاف الحاكم، ولاسيما في علاقة حركة النهضة بمختلف أطرافه، أو من خلال مؤسسات الحكم عموما ومنها مجلس نواب الشعب الذي تعدّ المعارضة جزءا منه. فحركة النهضة كانت ولا تزال خارج “السيستام”، مهما كانت صيغ التعاطي مع إكراهات الواقع من جانبها أو من “السيسام” نفسه. وليس من المصلحة في شيء، أن تصير حركة النهضة جزءا من “السيستام” الذي ترغب بعض أطرافه في ذلك، بما يُخضع وضع الحركة إلى أجندتها، ويمنع أيّ تغيير حقيقي للواقع.
وإنّ حركة النهضة التي يمتدّ تاريخها النضالي على مدى نصف قرن، تبدو ديناميكية وليست نمطية. فقد استطاعت بفضل ما اصطبغت به من مرونة وقدرة على التفاعل، في نشأتها وخلال مسيرتها، أن تتجّدد وتستمرّ وتشكّل أحد المكونات الأساسية للمشهد السياسي الحالي. وهي من قوى التغيير الجديدة التي جاءت بها الثورة إلى مواقع التأثير والقرار. وهي إذ تترفّق بالتجربة الديمقراطية الناشئة، كما يقول بعض قادتها، فلا يجب أن تفرّط بأيّ وجه في أهداف الثورة واستحقاقاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وأنّ مستقبلا أفضل لتونس لا يكمن في استعادة “السيستام”، بل في تغييره وتصالحه مع قيم الثورة واستحقاقاتها.
ومهما كانت أخطاء قوى التغيير والإصلاح المختلفة الذين جاءت بهم الثورة، في المرحلة السابقة، فهم مناط الأمل في تصحيح المسار ضمن قواعد التنافس الديمقراطي ورقابة الناخبين. وشتّان بين من خبرتهم السنون وعرفهم الشعب لعقود، وبين من تقذف بهم لوبيات مالية وإعلامية ومخابر بحثية مسترابة، ممّن لا يعرف الناس لهم ماض ولا سبق في الحياة العامة، ويخفون مصادر تمويلهم، ويتحيّلون على الحياة السياسية بيافطات جمعياتية، (عيش تونسي مثالا) ويزعمون أنهم بديل عن الأحزاب السياسية ومنقذون للبلاد من الفوضى، وعاملون على إعادة الأمور إلى سكّتها. فلا تلبسوا الحقّ بالباطل، ولا ينبّئكم بمثل ذلك خبير.

محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 108، تونس في 16 ماي 2019
https://scontent.ftun12-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/59768465_525474567983692_1422717060785373184_n.jpg?_nc_cat=109&_nc_ht=scontent.ftun12-1.fna&oh=825687ebe69d5fd2d5a6743b14ab68c0&oe=5D56C527

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: