هل تشكل الاشتباكات الأخيرة بالضاحية الجنوبية محطة فارقة في المشهد السياسي التونسي؟ !
هل تشكل الاشتباكات الأخيرة بالضاحية الجنوبية
محطة فارقة في المشهد السياسي التونسي؟ !
جريدة الموقف جانفي 2007
في ظل التعتيم الإعلامي الرسمي والضعف الفادح في إعلام المعارضة والمصادر المستقلة والتهويلات والتناقضات البادية في الروايات الشعبية، يظل الغموض يكتنف الأحداث الأخيرة التي عرفتها الضاحية الجنوبية لتونس العاصمة ما بين 23 ديسمبر 2006 و 3 جانفي 2007 والمتمثلة في اشتباكات مسلحة جرت بين قوات من الأمن والجيش من جهة وبين عناصر وصفت “بالمجرمين الخطرين” حسب المصادر الرسمية التي أكدت وجود قتلى وجرحى وموقوفين في تلك الأحداث. ومع الإقرار بأهمية المعلومة الصحيحة والدقيقة في فهم ما يجري وتحليل الأسباب والتداعيات المستقبلية، احسب أن ما تأكد من معلومات، على شحّتها، إلى حد كتابة هذا المقال، وما سجل من تفاعلات، وما يتوفر من معطيات سابقة حول المشهد العام ببلادنا، عناصر كفيلة بإتاحة الاستخلاصات والملاحظات والتساؤلات التالية:
1 – إن حمل السلاح خارج إطار القانون واستعمال العنف لأهداف سياسية أسلوب مرفوض وممارسة مدانة من الناحية المبدئية. ولعل النتائج المدمرة على مختلف المستويات لمثل هذه الخيارات في بلدان أخرى عززت ميل عموم التونسيين إلى نبذ مثل هذه الأساليب، فجاءت مواقف الأحزاب والجمعيات والنخب الصادرة إلى حد الآن مستنكرة ومحذرة من مغبة السير في هذا الطريق وأبدت حرصا واضحا على حرمة دماء التونسيين وتجنيب مجتمعنا مخاطر هذا الانزلاق وتثمين نعمة السلم الأهلية التي تتمتع بها بلادنا. كما لم يجد المسلحون تعاطفا يذكر في أوساط الرأي العام. وهذه النتيجة المبدئية في حد ذاتها مكسب يثمّن عاليا ويحتاج من مختلف القوى الفاعلة وفي مقدمتها القوى الماسكة بدواليب الدولة تسجيله وتنزيله المكانة التي يستحق والبناء عليه في رصد التداعيات المستقبلية والمعالجات المطلوبة.
2 – إن التعتيم الإعلامي الذي حف بهذه الأحداث واستنكره الإعلاميون وأطراف المعارضة والمجتمع المدني والمتابعون في الداخل والخارج، أكد النهج الانغلاقي للسلطة وأدى إلى نتائج عكسية من ناحية الجدوى، إذ فسح المجال للإشاعات والتهويلات والتخمينات وهضم حق التونسيين في معرفة الحقيقة وأضر بسمعة السلطة وقد تكون نتائجه وخيمة على مستقبل السياحة وصورة تونس، إضافة إلى غمط مكانة قوات الأمن والجيش وهضم حقوق من أصيب منهم في هذه الاشتباكات أثناء القيام بواجبهم. وقد يكون من أهم دروس هذه الأحداث الاستثنائية مراجعة المشهد الإعلامي ببلادنا الذي ظل محل انتقادات عديدة ولم تغير الإجراءات المعلنة على هذا الصعيد من جوهره.
3 – إن الاشتباكات المسلحة الأخيرة بحجمها وطبيعتها ومكانها وتوقيتها وسياقها قد تشكل محطة فارقة في مستقبل بلادنا. فأحداث قفصه في بداية الثمانينات مع اختلاف طبيعتها وملابساتها سبق وأن غيرت المشهد السياسي وكانت احد بواعث ما عرف بسياسة الانفتاح وإقرار التعددية السياسية.
صحيح أن العنف والإرهاب اليوم من الظواهر العالمية التي تتغذى من مناخ دولي وظروف إقليمية إضافة إلى العوامل المحلية. وصحيح أن بلادنا استطاعت إلى حد الآن أن تنأى بنفسها عن موجات العنف القريبة والبعيدة التي تجتاح منطقتنا. لكن الصحيح أيضا أن المعالجات الأمنية كشفت محدوديتها وان مراجعات كبرى صارت متأكدة وان السلطة مدعوة إلى الانتباه إلى أن ناقوس الأحداث الأخيرة والى الاستماع إلى الأصوات العديدة التي طالما حذرت من عواقب الاحتقان السياسي والاجتماعي وطالبت بالانفراج والإصلاح. وان معالجات ناجعة للتحديات وتحصينا حقيقيا للمجتمع ضد العنف والإرهاب مهما كانت دوافعه وأيا كان الداعون إليه، تحتاج إلى إشراك حقيقي للقوى الحية وفي مقدمتها الأحزاب و الجمعيات وفتح حوار وطني دون إقصاء حول مختلف القضايا والتحديات، بعيدا عن الاستمرار في أخطاء الماضي ونهج الانفراد والانتقائية السياسية القائمة على الولاء.
4 – إن عمر ربيع الباشا الذي وصف بأنه نائب قائد المجموعة المسلحة لم يتجاوز 22 سنة وهو من أصيلي مدينة سليمان، و ميل المصادر الإعلامية المحلية التي بدأت تتحرر باحتشام من التقيد بالرواية الرسمية المعلنة، في نسبة المسلحين إلى “السلفية الجهادية” التي يغلب على المنتمين إليها عناصر شبابية، إذا اعتمدنا هذا المعطى كأحد المعطيات الأساسية وربطناه بسياق من شملتهم الاعتقالات خلال السنتين الأخيرتين والمحالون على القضاء بتهم “تتصل بقانون مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال” والتي تشير مصادر المحامين والحقوقيين أنهم مئات من الشباب أساسا، هذا المعطى العمري يجعلنا حقيقة أمام أسئلة محيرة تخص هذه الشريحة من التونسيين… أسئلة تتصل بدوافع اتجاه هذا الشباب إلى الفكر السلفي وأسباب تكاثرهم في فترة يفترض أنها قامت على مراجعة للسياسة التعليمية والثقافية والدينية التي أطلقت في بداية التسعينات بغاية استئصال التطرف و”تجفيف منابعه”، وعقب سياسة حكومية تعلن أولوية الاهتمام بالشباب ومشاغله وتامين مستقبله. وأخرى تتصل بآفاق الشباب واحتياجاته من رواد المساجد، وممن يركبون قوارب الموت للهجرة إلى الخارج وممن ضعفت فيهم بواعث الدراسة ومواصلة المشوار التعليمي وممن استسلموا لللامبالاة و المخدرات واستهوتهم مسالك الانحراف والجريمة. وأسئلة أخرى تتصل بتأطير الشباب في الأحزاب والجمعيات في ظل المؤشرات العالية على عزوف الشباب عن مثل هذه الأعمال وانشدادهم إلى الفضائيات ومصادر الإعلام الخارجي عبر الانترنت، بعد أن صاروا في قطيعة مع الإعلام الداخلي. وتبقى الأسئلة الأكثر إحراجا تتصل بقنوات تأطير الشباب في جماعات مسلحة، ومصادر التمويل والدعم اللوجستي لهم، وعدم معرفة هؤلاء الشباب لا من قبل الأوساط السياسية ولا الأمنية ومدى نضجهم، لرسم أهداف سياسية والعمل على تحقيقها بالقوة المسلحة. هذه الأسئلة وغيرها مما لا يتسع له المجال يعد طرحها والإجابة الضافية عليها من أهم دروس الأحداث الأخيرة.
5 – لئن كانت المعالجة الأمنية في مثل هذه القضية من جنس الموضوع، فان الاهتمام ينصرف على هذا الصعيد إلى الخشية من النتائج العكسية للمقصود. فمن جهة تبدو الصرامة و اليقظة مطلوبين في هذه الحالة، لكن الخشية التي عبرت عنها أوساط حقوقية وسياسية من التذرع بالظروف الأمنية لتشديد القبضة على المجتمع وتكثيف المضايقات على الحريات والأشخاص وتبرير مزيد من الانغلاق في الحياة العامة،تبدو مشروعة لان ذلك مما يعمق الاحتقان و يبعدنا أكثر عن الانفراج السياسي المتأكد ولا يضع الأمور في سياق الإصلاح المطلوب لتحصين المجتمع ومحاصرة نزعات العنف.
ومن جهة ثانية دلت تجارب بلدان عديدة على أن الإساءة البالغة للمورطين في هذه الأحداث والمعتقلين المشتبه بهم وانتهاك حقوقهم أو تسليط عقوبات جماعية على عائلاتهم أو جهاتهم أو سد أبواب الحوار في وجوههم، وعدم إرفاق المعالجة الأمنية بمعالجات فكرية واجتماعية وسياسية لاحتواء مثل هذه النزعات وإعادة إدماج من اخطأ الطريق منهم، مثل هذه السياسيات تأكد فشلها في استئصال العنف، بل ربما ساهمت في تغذيته وتحويل وجهته من الخارج إلى الداخل. فالي طبيعة المعالجة واتجاهتها يرتهن جانب هام من تداعيات هذه الاحداث التي نأمل أن تكون الأخيرة ونسال الله أن يجنب بلادنا آثارها المدمرة.
6 – حين تفشل المذاهب الدينية في كبح النوازع الحيوانية في الإنسان، ويصبح الفكر الديني منبعا للعنف و التحريض على القتل وسفك دماء الأبرياء، وحين يرتد الفكر الإسلامي إلى دوائر السلفية والاحتراب الطائفي بعد كل جهود المصلحين في القرون الأخيرة، وحين تفشل سياسات التحديث في تطهير الإدارة من الفساد والرشوة وفي تامين علاقات سياسية واجتماعية قائمة على احترام القانون وضمان حقوق الإنسان وصون السلم الأهلية، تكون الأحداث الأخيرة، على غرار ما يحدث في بلدان عديدة، مشكلة معقدة اكبر من أن تحل بمعرفة هوية المجموعة المسلحة وإدانة هذا الطرف أو ذاك.
محمد القوماني