هل المشكلة في الاحتجاجات أم في التعاطي معها؟

جريدة “الرأي العام”، العدد2، تونس في 13 أفريل 2017.

         تبدو الاحتجاجات الاجتماعية في تطاوين والكاف والقيروان ومناطق أخرى مختلفة من تونس خلال الفترة الأخيرة، موجة جديدة من حراك لا يكاد يتوقّف حتى ينطلق مجدّدا. ويحرص البعض أحيانا على  استعراض عدد التحرّكات الاجتماعية التي لم يتعوّد عليها التونسيون من قبل، ليؤشروا إمّا على أزمة الحكم أو على الأوضاع السيئة لتونس ما بعد الثورة. ونحسب أن المشكلة لا تكمن في ظاهرة الاحتجاج في حدّ ذاتها ولا في حجمها، بل في التعاطي مع الاحتجاجات سواء من طرف الماسكين بالسلطة أو من طرف الأحزاب والمنظمات الاجتماعية وفعاليات المجتمع المدني والإعلام عموما.

         فظاهرة الاحتجاج طبيعية في أصلها، من زاوية أنّ الثورة حرّرت الناس وفتحت حرية التعبير على مصارعها أوّلا، وهي بهذا المعني إحدى تجليات الديمقراطية التي جاءت بها الثورة. وثانيا لأنّ الديمقراطية كما هو معلوم تعطي فرصة لأفضل الحلول الممكنة لكنها لا تأتي بالحلول التي ترضي الجميع. وعلى هذا الأساس لا خوف من الظاهرة الاحتجاجية ولا حجّة للمتبرّمين منها في التحريض عليها، ولا دلالة سياسية لها على أزمة الحكم، فلكلّ حكم مهما كان الماسكون بالسلطة، أنصاره ومعارضوه، والراضون به والمحتجون عليه.

ولمّا كانت الثورة من أجل الحرية والكرامة، قد تداخل فيها الاجتماعي بالسياسي، وتوازى شعار “التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق” مع شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، ولم تكن مجرّد انتفاضة اجتماعية كما يسوّق البعض،  فإنّه من الطبيعي أن يرتفع نسق الاحتجاجات الاجتماعية بعد التباعد المسجل بين المسارين السياسي والاجتماعي، حتى صار السؤال مشروعا حول حجم التداعيات السلبية للثاني على الأوّل.

فالنجاح المسجّل على المسار السياسي وخاصة ما يتعلق بإقرار دستور يحول دون الاستبداد ويُخضع السلطة للرقابة، وضمان الحريات والتعايش السلمي والتركيز التدريجي لمؤسسات الجمهورية الثانية، وكذلك ما يشهد به العالم من “نجاح تونسي” على غرار ما سجلناه في الندوة الدولية للاستثمار بتونس، هذا النجاح السياسي النسبيّ لا يوازيه نجاح مماثل على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، مما يجعل المكاسب هشّة والأوضاع غير مطمئنة. ولا نتردّد في الإقرار بأن ما تحقق اقتصاديا واجتماعيا كان دون المأمول بكثير، من زاوية تطلعات الناس وانتظارا تهم الكبرى. وإنّ الظروف الموضوعية الصعبة وسياقات الانتقال وتداعيات الثورة لا تبرّر التقصير والإخفاق على هذا الصعيد.

لكنّ الإقرار بشرعية الاحتجاجات الاجتماعية وتفهّمها لا يبرّران في نظرنا التعاطي السلبي مع مجمل التحركات. فالمنظمات الاجتماعية والجمعيات التي تسوّق نفسها باعتبار انحيازها للمفقّرين والمُعدمين ونضالها من أجل العدالة الاجتماعية، والتي لا تخفى أجنداتها السياسية وانخراطها في المناكفات الأيديولوجية، والأحزاب السياسية التي تقدم نفسها مدافعة عن مصالح الشعب ومؤطرة له من أجل مستقبل أفضل  والمعنية بأصوات الناخبين، والتي لا تخفى في مواقفها استرضاءهم بأيّ ثمن، نجدها في الغالب الأعمّ تساند الاحتجاجات مهما كانت مطالبها وسياقاتها وخلفياتها، بما في ذلك ما يصحب تلك التحركات من تعطيل للإنتاج وقطع للطرقات وإضرار بمصالح المستثمرين  وسائر المواطنين ومخالفة القانون واستضعاف الدولة وتلاعب بالمشاعر وتوظيف للنعرات القطاعية والجهوية…ولا يتوانى الإعلام في الغالب عن فسح المجال للأصوات الأعلى في تلك الاحتجاجات للتضخيم وتصفية الحسابات مع جهة أو أخرى.

هذه الأحزاب والمنظمات والجمعيات، محمولة بمقتضى أصل وجودها وأهدافها المعلنة والقوانين المنظمة لها، على تأطير المواطنين وتوعيتهم بما هو ممكن التحقيق وما هو مؤجل، ومساعدتهم على توسّل الطرق المشروعة لنيل حقوقهم وتحقيق مطالبهم، واستحضار المصلحة العامة للشعب والبلاد قبل المصالح الشخصية والفئوية والمكاسب المادية والسياسية.

والماسكون بالسلطة وفي مقدمتهم الحكومة، ليسوا مدعوّين بمقتضى تهدئة الأوضاع وخفض الاحتقان والاستمرار في مناصبهم، إلى بيع الأوهام بوعود زائفة أو استرضاء المحتجين على حساب مقتضيات إنفاذ القانون وحفظ المصلحة العامة، بالتدخل في مسار القضاء أو  سنّ عادات سيئة أو تلبية مطالب غير مشروعة، أو الضغط على المستثمرين بما يعرّض مصالحهم للخطر بانتدابات تفوق قدراتهم أو بمواصفات لا تلبي حاجياتهم أو غيرها من الإجراءات، أو إثقال كاهل الدولة بما لا قبل لها به من تلبية مطالب قطاعية أو فئوية أو جهوية أو غيرها، كما حصل مع الحكومات المتعاقبة بعد الثورة.

بل الحكومة والأحزاب المشاركة فيها والمسؤولون في السلطة والمساندون لها، مدعوّون في المقام الأول  إلى  مصارحة الشعب بحقيقة قدرات الدولة وباعتماد سياسات في الشفافية ومحاربة الفساد وسيادة القانون والتكافؤ في الفرص بما يكسبها المصداقية ويمنحها ثقة الأغلبية،  وبردّ بعض أموال الأغنياء على الفقراء، من خلال  سياسة جبائية عادلة تكرس التكافل الاجتماعي، إذ  ما جاع فقير في الأغلب إلا  بسبب استغلال غنيّ لجهده أو استثرائه على حسابه.

وهم مدعوٌون بعد ذلك إلى مراجعة خيارات  وسياسات تبيّنت حدودها وسلبياتها، مثل تشجيع المستثمرين بامتيازات  على حساب المالية العمومية دون جدوى، وأن يعملوا على تتحمل الدولة مجددا مسؤولياتها في قيادة قاطرة التنمية بالجهات الداخلية خاصة، وأن تفعّل الشراكة بين القطاعين العمومي والخاص، باعتماد مشاريع تنموية واقعية تستفيد من خصائص الجهات وتلبي حاجياتها في التشغيل وتحسّن مستوى عيش أهلها. وأن تجري الدولة الإصلاحات  اللازمة والموجعة لإنقاذ  المؤسسات العمومية بدل التفريط فيها. وأن نجعل الاقتصادي  والاجتماعي  أولوية المرحلة القادمة، حتى نستثمر النجاح السياسي اقتصاديا وندعم التوافق السياسي بالسلم الاجتماعي ونؤمّن مستقبل مطمئنا في محيط عربي وإقليمي ودولي مضطرب ومنذر بمخاطر جمّة.

آن الأوان لتراجع مختلف الأطراف تعاطيها مع المطالب الاجتماعية، حتى لا نستمرّ في تكريس منطق “دولة الرعاية” الذي أدّى بالمؤسسات العمومية إلى العجز وأشاع التواكل وأضعف المبادرة الفردية،  ولا نسمح بأن تعصف الاحتجاجات الاجتماعية بمكاسب سياسية هامة تحققت. وإنّه مهما قست الظروف وتعثّر مسار الثورة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، فلا نستسلم لخطاب التيئيس والإحباط بأيّ حال، الذي لن يخدم قضية شهداء الثورة وجرحاها، ولا حقوق المضطهدين والضحايا ولا مطالب التشغيل والتنمية العادلة. فكثيرا ما يكون خطاب التيئيس والعدمية تمهيدا للاستسلام للاستبداد.

L’image contient peut-être : 1 personne

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: