نهاية قرطاج 2: بداية مرحلة جديدة أم فتح على مجهول؟
صرّح الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي عقب لقاء جمعه برئيس مجلس نواب الشعب محمد الناصر السبت 15 سبتمبر 2018 أنّ “وثيقة قرطاج 2 لم تعد موجودة” و أشار إلى أنّ البرلمان هو الإطار الأنسب للحوار السياسي والتوافقات في هذه المرحلة.
ويأتي هذا التصريح الجديد ليعطي معنى أدقّ لتصريح سابق للطبوبي منذ أسبوعين لما سماه الوصول الى “نقطة اللاعودة” عقب لقائه رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي. فقد انفضّ لقاء قرطاج الذي هندس المرحلة السياسية السابقة، على تسجيل تباعد في الآراء حول الأزمة السياسية الحادة بالبلاد. ولم يعد مشروعا الحديث عن “ائتلاف حاكم” ولا عن “حكومة وحدة وطنية” ولا عن “توافق بين الشيخين” ولا “بين الحزبين الرئيسيين”. فهل تعني نهاية قرطاج 2 بداية مرحلة سياسية جديدة في أطرافها وتوافقاتها ومعالمها؟ أم قد تفتح هذه النهاية على مجهول يطرح أسئلة محيّرة ويصعب الجزم بتداعياته ومآلاته؟
لم تكن “وثيقة قرطاج” عملا موازيا ولا بديلا عن المؤسسات الدستورية كما يذهب إلى ذلك البعض، ولم يكن غرضها الوحيد تغيير رئيس الحكومة الحبيب الصيد، وإن تمّ ذلك في الصيغة الأولى، ولا يوسف الشاهد في الصيغة الثانية التي لم يتم بسبب الخلاف حول النقطة 64.
فالحوار الذي انطلق في 2016 بين أحزاب سياسية مشاركة في حكومة الحبيب الصيد، طبقا لنتائج انتخابات 2014، وتعزّز بأحزاب أخرى ومنظمات وطنية في 2017، كان يعكس دورا سياسيا بارزا لرئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، الذي جعلته الكاريزما السياسية وموقعه في المشهد وشخصيته يتجاوز حدود صلاحياته الدستورية. كما كان ذلك الحوار ضروريا لمعالجة خلافات والبحث عن حلول توافقية بين الفاعلين السياسيين والاجتماعيين تستند إلى المؤسسات الدستورية وتراعي مقتضيات مرحلة انتقالية. لذلك كانت التوافقات في قرطاج تجد صداها السريع في باردو والقصبة.
فكان أطراف وثيقة قرطاج سندا سياسيا للحكومة وكان التفاهم بينها مسهّلا لحصول الأغلبية المطلوبة في البرلمان لتزكية الحكومة أو تمرير مشاريعها القانونية أو تشكيل الهيئات الدستورية أو إقرار مستلزمات العملية السياسية كقانون المصالحة الإدارية أو تجديد هيئة الانتخابات أو القانون الانتخابي أو مجلة الجماعات المحلية ونحوها. ولولا كيمياء التوافق بين الباجي والغنوشي والتوافق بين النداء والنهضة، الذي يقول عنه طرف أنه اختيار ويقول الآخر أنه اضطرار ويراه البعض تعايشا ويراه الآخر تحالفا، لما كان الاستقرار السياسي والاستثناء التونسي.
كان الحوار الوطني الذي رعاه الرباعي بقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل إبداعا تونسيا لتجاوز أزمة سياسية كادت تعصف بالبلاد وتجربة الانتقال الديمقراطي في 2013. وكان الدستور التوافقي وحكومة الكفاءات المستقلة التي أمّنت تنظيم اللانتخابات التشريعية والرئاسية نهاية سنة 2014 ثمرة الحوار الوطني الذي استحق الراعون له اقتسام جائزة نوبل للسلام.
وكان التوافق لاحقا آلية ناجعة لتأمين الانتقال من ترويكا 2011 إلى الأغلبية الجديدة في 2014. وليست الهزات الخفيفة التي مرّت بها التجربة والأزمات العارضة التي تمّ تخطّيها، سوى أعراضا لصعوبات الانتقال من مرحلة إلى أخرى. فهل تبدو الأزمة السياسية الحادّة التي تمرّ بها البلاد منذ أشهر أعراضا لصعوبات انتقال جديد من منظومة 2014 إلى منظومة مفترضة في 2019؟ وهل يمكن التأكّد من ملامح مشهد سياسي جديد في السنة الأخيرة من العهدة الانتخابية؟ وهل كانت لنتائج الانتخابات البلدية الأخيرة وقعها في مسار المشهد الوطني رغم طابعها المحلي؟.
غيّرت نتائج الانتخابات المحلية التي تمّت في 6 ماي 2018 ملامح المشهد السياسي الوطني رغم مبادرة حزب النهضة الفائز فيها إعلان تمسّكه بالهندسة السياسية القائمة على نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2014، والتي تقدّم فيها حزب النداء الممسك بالرئاسات الثلاث والقائد لدفة الحكم. وبعد تشكيل المجالس البلدية التي تقدمت النهضة فيها أيضا ازداد تصريحات حزب النداء في انتقاد حزب النهضة وتحميله مسؤولية هزيمة النداء والدعوة إلى فضّ التوافق معه.
أبدت النهضة رصانة لا تخفي في التعامل مع التصريحات المستفزّة للنداء، لكن الخلاف الحادّ حول النقطة 64 من وثيقة قرطاج2 كان القطرة التي أفاضت الكأس. فقد أصرّ حزب النداء مسنودا من اتحاد الشغل أساسا على التنصيص على تغيير رئيس الحكومة يوسف الشاهد ورفض حزب النهضة وآخرون معه هذا الشرط واكتفوا بالتنصيص على أن تكون الحكومة سياسية ومحايدة في الاستحقاق الانتخابي نهاية 2019، فلا يترشح رئيسها ولا أعضاؤها. وحين استحال التوافق وأعلن رئيس الجمهورية تعليق العمل بوثيقة قرطاج2، لم يتردّد زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي في إعلان أن حزبه لن يتنازل هذه المرّة كما كان يحصل من قبل. وقد فهم المتابعون من تصريحه يومها أنّه يلمح إلى أنّ مشهدا جديدا بصدد التشكل وأنّ إدارة التوافق أو قواعده تحتاج إلى تعديل في ضوء نتائج البلديات ومتغيرات المشهد.
وأصرّ حزب النهضة على موقفه المتمسك بالاستقرار الحكومي في جميع الحوارات التالية الثنائية والجماعية. ثمّ جاء الصراع لاحقا داخل حزب نداء تونس وتعدّدت المؤشرات بالغة الدلالة، على أنّ مشهدا سياسيا جديدا بصدد التشكّل. وليس تمرّد يوسف الشاهد على المدير التنفيذي للحزب حافظ قائد السبسي في مرحلة أولى وعلى السبسي الأب رئيس الجمهورية في مرحلة لاحقة، والانقسامات مجدّدا في حزب النداء وتشكيل كتلة الائتلاف الوطني المحسوبة على الشاهد، التي ستغير من التوازنات في البرلمان في مطلع دورة جديدة وأخيرة له، سوى أمثلة في هذا السياق. وليس ذلك كله سوى تأكيدا لقول الطبوبي أنّ الحوار بلغ نقطة اللاعودة وانّ ثيقة قرطاج2 انتهت.
يبدو من المبكّر جدّا، إن لم نقل من التسرّع، الجزم بمآلات الأزمة السياسية وبملامح المشهد السياسي في أفق استحقاقات 2019. فلم يحسم الصراع بعد داخل النداء، رغم التطورات الدراماتيكية. ولم تتأكد بعد طبيعة المشروع السياسي الشخصي ليوسف الشاهد. وهل يراهن على الاستمرار رئيسا للحكومة في أفق استحقاق 2019 وما بعده؟ أم يعتزم خوض غمار السباق على قصر قرطاج؟ وهل تصمد كتلته التي تحمل عناصر قابلة للانفجار وتتكون من نفس الشخصيات التي كانت موضوع انقسامات ومغامرات سابقة؟ وما تأثير الأوراق المتبقية في جعبة رئيس الجمهورية الذي يظل فاعلا أساسيا، رغم تفلّت بعض خيوط العملية السياسية من بين أصابعه؟ فهو الرئيس المنتخب أوّلا وهو المحنّك والمخضرم ثانيا. وكيف سيتصرّف بقية الفاعلين في ضوء أزمة نداء تونس، لا سيما حركة النهضة التي لازالت تعرب عن تمسكها بالتوافق والتزام الحياد تجاه أزمة النداء ولم تفصح بعد عن خياراتها في أفق استحقاق 2019؟ وما هو البديل عن التوافق في تأمين المرحلة الجديدة؟ وإن اسمرّ التوافق فما هي أطرافه؟ وهل يستغني البرلمان عن إطار للحوار الوطني يعضّده ويتيح مشاركة فاعلين غير ممثّلين في البرلمان على غرار حوار قرطاج؟
هذه الأسئلة وغيرها التي تعبّر عن جوانب من صعوبات الانتقال ومحاذيره، تجعلنا نرجّح أن نهاية قرطاج 2 صارت متأكدة بالتصريحات الإعلامية والوقائع على الأرض. لكن تلك النهاية، لا تفسح المجال لمشهد جديد واضح المعالم، بقدر ما تفتح على مجهول لا يخفي أغلب الفاعلين والمتابعين التوجّس من تداعياته. وليس الحديث عن مخطط لاغتيال الأمين العام لاتحاد الشغل، عقب حملة “شيطنة” طالته مؤخرا، سوى عنوانا مفزعا في هذا المستقبل الذي نسأل الله تعالى أن يقينا مساوئه.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 74، تونس في 20 سيتمبر 2018.
https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/41943292_2112264438797329_4993940182240591872_n.jpg?_nc_cat=0&oh=4374064e51f6677f7aaadfe979acfc1b&oe=5C1CF803