من مشهد ساخن..إلى رسائل تهدئة: الاقتصاد ومحاربة الفساد والعدالة الانتقالية من الأولويات
جريدة الرأي العام، العدد 24، تونس في 28 سبتمبر 2017
كانت بلادنا على صفيح ساخن خلال الأسابيع الأخيرة وبدا المشهد ضبابيّا إلى أبعد حدّ. فقد تزامنت المشاورات حول التعديل الوزاري مع جهود محمومة لتأجيل الانتخابات البلدية المقرّرة نهاية هذا العام. وبُذلت مساعي جدية لاستدعاء الاستقطاب الأيديولوجي غذّتها تصريحات مدوّية حول مستقبل التوافق السياسي. وعاد التجاذب حول النظام السياسي بالتوازي مع اشتداد المواجهات السياسية بمناسبة تمرير قانون المصالحة. لكن الآن وقد منحت الأغلبية ثقتها مجدّدا لحكومة الشاهد وتأجّلت البلديات إلى أجل نأمل أن يكون قريبا ويتحدّد رسميا في أقرب وقت، وتمّت المصادقة على قانون المصالحة الإدارية وحصل تسديد الشغور بهيئة الانتخابات وقريبا يتم اختيار رئيسها، وجاءت تصريحات رئيس الجمهورية في حواره الأخير مطمئنة ومهدئة على أكثر من صعيد. بعد كل هذا الذي حصل من رسائل طمأنة، هل يصحّ القول بأنّ العاصفة قد هدأت وأنّ الرؤية اتّضحت لننتبه لأولياتنا الحقيقية وتحدياتنا المشتركة؟
المعضلة الاقتصادية أوّلا..
نحسب أنّ العناوين السياسية سالفة الذكر على أهميتها وآثارها في المزاج الشعبي العام وتأثيرها على أصعدة مختلفة، كانت موضوع تجاذبات لا تلامس جوهر التحديات الحقيقية والأولويات الوطنية في هذه المرحلة. إذ تظلّ المعضلة الاقتصادية وما يستتبعها من تداعيات اجتماعية جوهر الانشغالات الوطنية بلا منازع. ومهما مارسنا شتّى أنواع الهروب والتأجيل والإلهاء، فإنّ الاقتصاد يظلّ يقضّ مضاجعنا حكومة وشعبا. وما يزيد في الانشغال هو أنّه بعد خطاب رئيس الحكومة في جلسة منح الثقة بالبرلمان ومن خلال الوثيقة الحكومية المعروضة على أطراف وثيقة قرطاج لإبداء الرأي ومع اقتراب تقديم ميزانية 2018 وقانون المالية الجديد لمجلس نواب الشعب، لا تلوح أيّة مؤشرات على تغيير حقيقي في مواجهة الملف الاقتصادي المتفاقم رغم التنبيه إلى ذلك من أطراف عديدة والدعوات المتكررة لحوار اقتصادي واجتماعي. إذ تظلّ الأرقام المتداولة حول نسبة المديونية العالية وانخرام الميزان التجاري وتدنّي قيمة الدينار وعجز المالية العمومية وتراجع الترقيم السيادي وعدم بلوغ نسبة النمو المرجوة …تظل أرقاما عنيدة تسفّه كل الخطب والوعود المعسولة. كما تظلّ التقارير الدولية حول مناخ الاستثمار السلبي واستمرار استشراء الفساد وضعف مواجهة الحكومة له، فضلا عن التصريحات السلبية لرئيس هيئة مكافحة الفساد في هذا المجال، مؤشرات إضافية على عدم الاطمئنان للمستقبل.
وتفيد التسريبات الأوّليّة عن مشروع ميزانية 2018 أنّ معالجة العجز في مداخيل الدولة تتّجه مجدّدا إلى الترفيع في الضرائب والبحث عن حلول إدارية وإثقال كاهل الموظفين والعمال وتعكير حياة الطبقات الوسطى بأداءات لا تسمن و لا تغني من جوع.، والبحث عن كبش فداء بين القطاعات أو المؤسسات. ولا إرادة واضحة في المقابل لخفض كتلة الأجور أو فرض إصلاح المؤسسات العمومية أو بلورة خيارات في الإصلاحات الكبرى ومحاولة إقناع الشعب بها أو التفاوض الجديّ بشأنها مع الأطراف الاجتماعية المعنية. ولا رؤية لدفع الاستثمار وتحسين مناخاته وفرض العمل ومنع التعطيل وخلق الثروة. ويُخشى أن تصبح السياسات الحكومية مدفوعة بتسكين الاحتجاجات وتأجيل الانفجارات وربح الوقت، دون اقتراح حلول إنقاذية باتت متأكدة أكثر من أيّ وقت مضى وتحمّل المسؤولية كاملة في شأنها، على غرار ما يفعل الزعماء التاريخيون أو الأحزاب الوطنية في الظروف الاستثنائية خاصة.
رفع وتيرة الحرب على الفساد..
ومع تأكيدنا على حيويّة الملف الاقتصادي والاجتماعي الذي لا خلاف بين الأحزاب والمنظمات الداعمة للحكومة على أهميته وأولويته، وإن لم تتطابق الأفعال مع الأقوال، نحسب أيضا أنّ ملفّين آخرين على طاولة رئيس الحكومة لم يعودا قابلين لأيّ نوع من التأجيل أو المناورة. أوّلهما دفع الحرب المعلنة على الفساد برفع وتيرتها وتحويلها إلى سياسة رسمية بانخراط مختلف مؤسسات الدولة فيها وتعزيزها بما يلزم من التشريعات القويّة والشفافة وآليات الرقابة وعدم اقتصارها على التهريب أو الاقتصاد الموازي والعمليات الانتقائية، بل النفاذ بها إلى الإدارة وأجهزة الدولة والمضيّ فيها بصرامة وشفافية لإعطائها ما يلزم من المصداقية والشعبية، ولحصد ثمارها الاقتصادية بتحسين صورة بلادنا في التقارير الدولية وكسب ثقة الجهات الاستثمارية. فتحسين مناخ الأعمال يمرّ أساسا بمحاربة الفساد في الإدارة وضمان استقلال القضاء وشفافية الإعلام وحريته.
دفع مسار العدالة الانتقالية ..
أمّا ثاني الملفّين الأولويّين فهو دفع مسار العدالة الانتقالية التي توشك أهم حلقاتها عبر هيئة الحقيقة والكرامة على استكمال مدّتها القانونية. فبعد مصادقة البرلمان على عفو إداري يشمل الموظفين وأشباههم ممّن تعلّقت بهم قضايا فساد بسبب مهامهم في النظام السابق وتنفيذهم لتعليمات دون استفادة شخصية، والتي تعدّ خطوة مهمّة على طريق المصالحة الوطنية الشاملة والمتأكدة، تٌضاف إلى خطوات أخرى سبقتها، صار متأكدا أكثر مساهمة الحكومة أساسا، وسائر الأطراف المعنية، في استكمال مسار العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية. فقد طالت معاناة الضحايا من ذوي الظروف الصعبة خاصة، ويكاد ينفد صبرهم. ولن يلتئم الشمل فعلا ولن تندمل الجروح وتجتمع الكلمة والجهد في مواجهة التحدّيات المشتركة، إلاّ عبر جبر أضرار ضحايا النظام السابق وردّ الاعتبار إليهم. ونحسب أنّ إصدار رئيس الحكومة لأمر إحداث صندوق الكرامة المعروض عليه منذ مدة، ومزيد تسهيل مهام هيئة الحقيقة والكرامة في المدة القليلة المتبقية، مؤشرات مهمّة في هذا الاتجاه لتوفير أفضل الظروف والمناخات المساعدة على وحدة وطنية حقيقية وضرورية لمعالجة المعضلة الاقتصادية.
بمثل هذه الخطوات واستحضار الأوليات نعتقد أننا نتعاون على توضيح معالم الطريق وحشد القوة المعنوية والمادية في مواجهة الاستحقاقات الوطنية بدل تبديد الوقت والجهد في مناكفات تضر بنا وتعطّل مسارنا.
محمد القوماني