مشهد سياسي مُضحك..ومشهد مجتمعي مُحزن.. لنحذر العواقب
لا تخطئ عين المتابع للأوضاع العامة بتونس خلال الفترة الأخيرة التباعد الآخذ في الاتساع بين صورتين متباعدتين وربما متقابلتين، يفترض فيهما التقارب والتكامل. صورة مشهد سياسي يبعث على الضحك، تتسارع أحداثه ويزداد مستقبله تشويقا ويبلغ ذروة السريالية، حين تختفي فيه الاختلافاف في الخيارات والاقتراحات وتتشكّل مكوناته على غير ما هو معهود في عالم السياسة، ويتدحرج فيه حزب نداء تونس الفائز في انتخابات 2014 وصاحب الرئاسات الثلاث إلى المعارضة. تقابلها صورة مشهد مجتمعي محزن، تتعقد أزمته وتتشابك على مستوات مختلفة، لتشمل مؤشرات الاقتصاد المخيفة، ومعدلات الجريمة المرعبة، وأوضاع المدرسة العمومية المزرية، وخدمات الإدارة والنقل والصحة المتردّية، وأداء للأمن والقضاء يبعث على السخط، واتّهام للحكومة بالعجز والفشل. ولا تبدو اهتمامات السياسيين وأولوياّتهم معدّلة على هذا المشهد المجتمعي المحزن. كما لا تعدّل أغلبية التونسيات والتونسيين اهتماماتها ولا مستقبلها على هذا المشهد السياسي الذي لا يهمّهم فيه أن يكون الانتصار للشاهد أم لحافظ وأن تكون الأغلبية في البرلمان لهذا الطرف أو للآخر، وقد لا تعنيهم الاستحقاقات الانتخابية أصلا. والخطر في أن لا ينتبه الفاعلون إلى عواقب تباعد المشهدين.
ليس أبلغ في تصوير المشهد السياسي الحالي وتكثيفه من القول بأنّ الاستهداف الأشرس لرئيس الحكومة يوسف الشاهد صار من حزبه نداء تونس الذي رشّحه للمنصب، وهو الآن من أكبر منتقديه، وأنّ غريمه وحليفه في آن حزب حركة النهضة صار السند الرئيسي لحكومة الشاهد. بل صار الشاهد المنافس الأبرز في البرلمان لحزبه الفائز في اتخابات 2014. وها أنّ كتلة الائتلاف الوطني المحسوبة عليه، تتكوّن وتكبر في وقت قياسي لتصير الثانية، ويتدحرج ترتيب كتلة النداء بعد الاستقالات المتتالية منه، وقد يدفعه المشهد البرلماني الجديد إلى موقع المعارضة، في ظلّ تحالف جديد بصدد التشكّل بين كتلتي حزب النهضة والائتلاف الوطني الحائزين على أغلبية بلغة الارقام إلى حدّ الآن.
يُتّهم الشاهد باستغلال نفوذه واستعمال أدوات السلطة لإضعاف خصومه وشقّ الأحزاب وجلب الولاءات بالتخويف أو الإغراء. وتتأكد ملامح مشروعه السياسي الشخصي، بعد خروجه من جبّة الباجي الذي جاء به وتمرّده اللافت عليه. فلا شيء يفسّر سرعة التفاف نواب وشخصيات سياسية حول الشاهد وربط مصيرهم بمصيره، غير المراهنة عليه بصفته الشخصية السياسية الأكثر نفوذا في الحاضر والمستقبل. لكن المؤشرات تدلّ على أنّ الشاهد لم يستطع الصمود فقط لأشهر أمام استعجال خروجه من النداء واتحاد الشغل أساسا، بل استطاع كسب معركته ضدّ حافظ قائد السبسي، الذي يبدو في وضع محرج جدا بعد انسحاب عدد هام من نواب كتلته واجتماعهم بمغادرين سابقين للنداء ونواب من كتل أخرى منحلّة، لتشكيل القوة البرلمانية الجديدة، التي لا تخفي عناصر من داخلها وأخرى من خارجها ولاءها للشاهد وترشيحه لتزعّم قوة سياسية منافسة بجدية في الاستحقاقات الانتخابات التشريعية والرئاسية موفّى سنة 2019.
لكن هل يبدو الشاهد في طريق مفتوح بعد أن استعدى الاتحاد العام التونسي للشغل في مطلع سنة سياسية ستمتد إلى موعد الانتخابات؟ فقد فُهمت إقالة وزير الطاقة المنتمي إلى عائلة نقابية عريقة والقريب من الاتحاد على أنها تصعيد للصراع، كما فهم تلويح الاتحاد بالإضراب العام ردّا مناسبا في اتجاه التصعيد. وليس أدلّ على العلاقة المتوترة بين الطرفين من نعت الطبوبي للحكومة أو بعض أعضائها في أحد خطاباته الأخيرة ب”العصابة” و”أربعة ذرّي في القصبة” وبعض “السماسرة”. كما نعت الوزير المكلف بالإصلاحات الكبرى ب”وزير الخراب وتخريب البلاد”. وكيف سينعكس الصراع مع الاتحاد على المفاوضات الاجتماعية للزيادة في الأجور؟ وعلى مستقبل الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية موضوع الحوار سابقا؟ وعلى افتتاح سنة دراسية وجامعية تخبّئ مسائل خلافية عالقة وحادّة؟ وعلى إقرار ميزانية عام جديد في وضع اقتصادي تزداد مصاعبه ويبلغ فيه اختلال التوازن في الميزان التجاري أرقاما قياسية، إضافة إلى استمرار انزلاق الدينار وارتفاع المديونية وتواصل نسبة عالية في التضخم وفي كتلة الأجور وغيرها من المشاكل الهيكلية في اقتصادنا؟
قد تبدو الأزمة السياسية في طريقها إلى النهاية في نظر من يعتمدون موازين القوى في البرلمان فقط، ويمسكون بعداّد الكتل وتنقّل النوّاب، لكن الأزمة قد تستفحل أكثر وتخرج عن السيطرة أصلا إذا استحضرنا اعتبارات أخرى لا يجوز إسقاطها من المعادلة. فتجربة حكم “الترويكا” ليست ببعيدة في استخلاص أنّ الأغلبية البرلمانية لوحدها لا تكفي لصنع الشرعية السياسية ولا تصمد أمام الأزمات. فقد تتغير معادلات الحكم على أسس أخرى تخرج عن البرلمان ولا تقفز عليه. كما أنّ الصراع الحادّ بين الحكومة ومنظمة الشغالين، بصرف النظر عن المحقّ فيه، لا تخفى تداعياته الخطيرة على الاستقرار الاجتماعي والسياسي وإمكانية تحويل الوجهة والأولويات أصلا. وهل من السهل إنهاء التوافق بين الباجي والغنوشي وبين النداء النهضة، الذي أمّن المرحلة السابقة، لإحلال توافق جديد لا يستوعب القديم؟ ولم تتوضح معالمه بعد، إذا استحضرنا تداعيات الخلافات في الأجندة المجتمعية (المساواة في الإرث) والمواقف الرافضة للتحالف مع النهضة من بعض مكونات كتلة الائتلاف الوطني وآفاق المنافسة بين القوتين في ضوء استحقاقات 2019؟
نستحضر الأسئلة السابقة وغيرها دون أن نغفل منطلق حديثنا في تقابل المشهد السياسي المضحك/ المبكي مع المشهد المجتمعي المُحزن وتداعيات ذلك على الأزمة السياسية وأفق الاستقرار. ونكتفي بالتوقف عند مؤشرين اثنين لأثرهما السلبي البالغ والمباشر في حياة الناس، وللترابط بينهما. أوّلهما معدّلات الجريمة التي تتهدّد أمنهم، وثانيها أوضاع التعليم العمومي التي تتهدّد مستقبل أولادهم.
ف”الارهاب المجتمعي بالأسلحة البيضاء”، بات أخطر من “الإرهاب الأيديولوجي بالأسلحة النارية”. إذ الجريمة الفردية أو المنظمة، استفحلت وتطوّرت، شكلا ومضمونا، وصار التصدّي لها من الأولويات التي لا تقلّ أهمية عن التحدّيات الاقتصادية أو غيرها. ومن يتابع ما ينشر بوسائل الإعلام المختلفة عن أنواع الجرائم من سرقة ونهب وخطف ونشل وسطو واغتصاب للجسد والمال، وتفنّن في القتل وسفك الدماء . ومن يُنصت إلى ما يتناقله عامّة الناس يوميا وفي كل مكان من أفعال مشابهة، لا يمكن إلا أن يتملّكه الفزع ويطلق صفارة الإنذار عما يتهدّد أمننا ومستقبلنا بسبب استشراء العنف وتطوّر الجريمة في بلادنا كمّا ونوعا”. بل ربّما صار معدّل الاعتداءات المختلفة في الفترة الأخيرة يبعث على الريبة ويذكّر البعض بظواهر سابقة استهدفت المسار ولم تبن التحقيقات عن خفاياها، على غرار حرق مقامات الأولياء الصالحين وحرق الغابات وحرق المبيتات التلمذية وغيرها. ولئن كان ما يجري اليوم استمرار لما ورثناه من العهد البائد، فإنّه يجد في مناخات الحرية وحماية حقوق الإنسان وضعف الدولة والمناكفات السياسية بين الأطراف وبين المؤسسات، عوامل تغذّيه ولا تساعد على التصدّي الحازم له.
أمّا بالنسبة للمدرسة العمومية فحدّث ولا حرج. فمع افتتاح سنة دراسية جديدة للمرة السابعة بعد الثورة، يزداد عدد الفارّين إلى التعليم الخاص في مختلف مستويات التعليم. فبالبنية التحتية المتآكلة وحالات الاكتظاظ والغيابات المثيرة للمدرّسين وضعف التأطير وحالات التسيّب واستشراء الكحول والمخدّرات ومظاهر الانحراف والعنف داخل الفضاء المدرسي وفي محيطه، وتوتّر العلاقات بين النقابات وسلطة الإشراف، وتعطيل الدروس، إضافة إلى العجز عن إجراء إصلاحات جدّية والتخبط في الإجراءات واستمرار تراجع مستوى المتعلّمين والمدرّسين، عوامل مشجّعة على تهريب الأولياء المقتدرين لأولادهم إلى المدارس الخاصة الآخذة في التزايد السريع، وباعثة على الحيرة واليأس أحيانا بالنسبة للأغلبية من الأسر التونسية التي لا تزال تعطي الأولوية لتعليم أولادها مهما كانت مستوياتها المادية. وكلما انهارت المدرسة العمومية وتخلّت عن وظيفتها التربوية وازداد عدد المنقطعين والمحبطين كانت التكلفة المجتمعية باهظة على جميع المستويات.
أيّ أفق للمسار السياسي في ظلّ ترذيل الأحزاب؟ وأيّ جدوى للديمقراطية إذا صارت الانتخابات لا تعني أكثر من ثلثي الشعب؟ وما الفائدة من السياسة أصلا إذا لم تكن الطبقة السياسية في خدمة المجتمع وتلبية تطلعات الشعب والتنافس على التقدم بأوضاعه وتحسين ظروف عيشه؟ فليس أخطر على مستقبل تونس من هذا التباعد بين مجتمع الحكم (النخب) ومجتمع المحكومين (عامة الشعب). وليست ظاهرة الرغبة في الهجرة بأيّ ثمن، ونسبة التشاؤم العالية في صفوف الشباب خاصة، ومئات الآلاف من الأطفال الخارجين عن أيّ نوع من التأطير، والعزوف عن المشاركة في الحياة العامة والانتخابات، سوى مؤشرات بالغة الخطورة على مستقبل نسأل الله تعالى أن يقينا سوء عواقبه.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 73، تونس في 13 سيتمبر 2018.
https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/41652933_2103048479718925_1078520473333006336_n.jpg?_nc_cat=0&oh=d83e1a29a4d0ebf89787b5ef3458d40c&oe=5C21760B