مساعي الاستقطاب تربك الأجندة الوطنية ولا تنال من التوافق
جريدة الرأي العام، العدد23، تونس في 21 سبتمبر 2017
بلغ الاستقطاب مدى بعيدا بعد ثورات الربيع العربي حين غنّى الحجّار في مصر “همّا شعب..وأحنا شعب.. لينا ربّ وليهم ربّ…” وحين ميّز سياسيون ومثقّفون في تونس بين “دمائنا ودمائهم” وبين “تاريخنا وتاريخهم”… ولم يعد خافيا ما لعبه الاستقطاب الثنائي العلماني الإسلامي، من دور رئيسي في العصف بثورات الربيع العربي وتفويت فرصة تاريخية استثنائية لدمقرطة الشعوب العربية ونهوضها. وقد استطاعت تونس، مهد تلك الثورات، أن تتوقّى من تداعيات الاستقطاب الحادّ وتخفّض من منسوبه عبر اجتراح آليات وسياسات غير مألوفة، أفضت إلى ما يُعرف بين التونسيين بانتهاج خيار التوافق لإدارة مرحلة انتقالية وإنجاح الانتقال الديمقراطي. فما هي دوافع بعض الأطراف في الاشتغال مجدّدا على استعادة الاستقطاب في هذه المرحلة تحت عناوين مختلفة؟ وما تداعيات ذلك على إرباك الأجندة الوطنية؟ وما مستقبل التوافق في ظلّ المستجدات الأخيرة بالساحة السياسية التونسية؟
الاستقطاب ليس تنافسا
تعرف بلدان عديدة ذات ديمقراطيات عريقة في الشرق والغرب حالات من التنافس الانتخابي، يأخذ في مراحله الحاسمة صيغة ثنائية وتصطفّ الأطراف المختلفة إلى أحد المتقابلين. ويخضع ذلك التنافس لضوابط سياسية وأخلاقية وقانونية، وينتهي بإعلان نتائج الاقتراع وتهنئة المهزوم للفائز حزبا أو تحالفا أو رئيسا…ليتوحّد الجميع بعد ذلك في خدمة المشروع الوطني الجامع باحترام القوانين والخضوع للمؤسسات والانضباط لمقتضيات الديمقراطية في انتظار استحقاق جديد ومنافسة متجدّدة. ورفعا لكل لبس أردنا الإشارة إلى أنّ هذا التنافس الديمقراطي لا يندرج ضمن ما نعنيه بالاستقطاب، الذي يقوم على استعداء الخصم وشيطنته واستباحة كل الوسائل لهزمه ومنعه من المنافسة مجدّدا عبر العمل على استبعاده أو استئصاله إن لزم الأمر وتوفّرت الفرصة. لذلك يثمر التنافس الديمقراطي تداولا على الحكم، وينتج الاستقطاب حروبا دموية طائفية أو أيديولوجية تدمّر البلدان التي يفترض أن يتنافس السياسيون على خدمتها والنهوض بها. فالاستقطاب احتراب بين قطبين وليس تنافسا بين مُختلفين.
استدعاء الاستقطاب مجدّدا
تشهد بلادنا خلال الفترة الأخيرة مساع محمومة من جهات ايديولوجية وسياسية عديدة لتغذية التجاذبات الحادّة واستعادة الاستقطاب الثنائي البغيض. فقد عمل البعض أثناء المشاورات حول التعديل الوزاري الأخير، على استبعاد حركة النهضة من المشهد الحكومي ومحاولة خلق أغلبية بديلة عن ائتلاف حكومة الوحدة الوطنية واستهداف التوافق السياسي القائم. ويشتغل آخرون على الاستقطاب الأيديولوجي والثقافي بإثارة قضايا خلافية حادّة ومحاولة احتكار شعارات الحداثة والتقدم والمدنية والدفاع عن االحريّات الفردية وتعزيز مكاسب حقوق الإنسان والانضباط لمقتضيات المعاهدات الدولية لنفس الهدف. ولا ينفكّ بعضهم على دعوات التجميع السياسي على الضديّة، بالتحريض على حركة النهضة وتهويل تقاربها مع حركة نداء مع تونس ومحاولة استعادة مشهد انتخابات 2014 الرئاسية خاصّة. وقد يكون عنوانا آخر للاستقطاب، التحريض على النظام السياسي الذي أرساه دستور الثورة وتحميل حركة النهضة ذات الأغلبية في المجلس الوطني التاسيسي والتي قادت ترويكا الحكم بعد انتخابات 2011 مسؤولية ما يعتبرونه مأزقا في الحكم، والدعوة إلى استعجال تغييره قبل أيّة انتخابات جديدة. ويتناسى أصحاب هذه الدعوة أنّ هذا الدستور كان توافقيا وصوّتت له أغلبية تقارب ألإجماع، وهو لم يجرّب ولو لدورة نيابية واحدة، وأنّ الماسكين اليوم بالمسؤوليات الأولى في مؤسسات الحكم من حزب واحد لم يكن من الترويكا، وأنّ سوء إدارة الحكم لا يبرّره نظام الحكم.
إرباك الأجندة الوطنية
يبدو تأجيل موعد الانتخابات البلدية عشيّة بدء مسارها أخطر تداعيات مساعي الاستقطاب. فكلفة التأجيل المادية والسياسية والاقتصادية والخدماتية والاجتماعية لا يستهين بها إلاّ جاهل بخباياها. ومهما تذرّعت الأطراف التي عملت على التأجيل ونجحت فيه، بتعلاّت قانونية أو غيرها، والتي تبدو محقة في بعضها، فإنّه لا يخفى أنّ الدافع الرئيسي هو الخوف أو الوهم بأنّ حركة النهضة ستكون الفائز الأكبر فيها، باعتبارها الأكثر جاهزية لخوضها. فقد فشلت على ما يبدو، كما في كل مرة، دعوات التوحّد في قائمات ضدّ النهضة. وظهرت مصاعب قانون انتخابي خضع للمزايدات في وضعه. وكان التجاذب حول سدّ الشغور بهيئة الانتخابات والمناورات على هذا الصعيد من أهمّ أدوات المناورة في تأجيل الانتخابات، والتي تعلّل رئيس الجمهورية بعدم دعوة الناخبين إليها بسبب عدم تسديد البرلمان لذلك الشغور. وكادت مؤسسات الدولة أن تُجرّ إلى تجاذبات ومناكفات بسبب أجندات حزبية وحسابات سياسية. ولعلّ ما حصل من مواجهة حادّة وتجاوزات خطيرة بجلسة المصادقة على قانون المصالحة الإدارية بمجلس نواب الشعب، يعدّ نتيجة لما أشرنا إليه من استعادة الاستقطاب تحت عناوين مختلفة وإرباك للأجندة الوطنية.
التوافق مستمرّ
كان الاشتغال على تصريحات رئيس الجمهورية حول حركة النهضة والنظام السياسي والهيئات الدستورية في حواره مع جريدة الصحافة يوم 6/9/2017 آخر الورقات في استعادة الاستقطاب واستهداف التوافق وإرباك الأجندة الوطنية. فتمّ التضخيم في أبعاد تلك التصريحات وأهدافها المخفيّة والترويج لها على نطاق واسع. لكن قيادة حركة النهضة على ما يبدو، التي تعي جيّدا تعقيدات المشهد السياسي، استطاعت عبر تعاملها الرصين مع مختلف المستجدات والتحكم في تصريحات المتحدثين باسم مؤسساتها، أن تنجح رغم بعض الإرٍباك، في تفكيك ألغام كثيرة وُضعت في طريقها خلال المدّة الأخيرة، وأن تلتزم بخيارها في التوافق وتفي باستحقاقاته. فزكّت حكومة الوحدة الوطنية وصادقت على قانون المصالحة الإدارية ودعمت رئيس الجمهورية وعملت مع الشركاء على تسديد الشغور بهيئة الانتخابات وحرصت على ضبط موعد جديد للبلديات. وهي مع كل ذلك وقبله منشغلة بالوضع الاقتصادي والاجتماعي الصعب وحريصة على جمع الكلمة والجهد حول معالجته. وجاء حوار رئيس الجمهورية الأخير مساء الإثنين 18/9/2017 على القناة الوطنية ليرفع كثير من الالتباسات ويطمئن التونسيين حول مستقبل المشهد السياسي بتثبيت خيار التوافق مع النهضة والذي يعدّ أحد أطرافه الأساسية والضامن له، وليؤكد دعمه لحكومة الشاهد وحرصه على تعيين موعد جديد للبلديات، وعدم مبادرته باقتراح تغيير النظام السياسي.
لذلك نخلص إلى أنّ التوافق خيار تأكدت نتائجه الإيجابية، اقتضته مرحلة انتقالية وفرضه نظام انتخابي وتزكّيه جهات إقليمية ودولية ولذلك يستمرّ. وإنّ الاستفادة من دروس الماضي المرير تجعلنا حريصين على تجاوز الاستقطاب، والخروج من التِيه الذي أوقعته فيه ثنائيّات عديدة كانت “العلمنة” و”الأسلمة” أبرزها. فهموم الوطن الذي يجمعنا ومشاكل الواقع وتحدياته المشتركة، عناصر توحّدنا أكثر من عناصر أيديولوجية أو أجندات خارجية تشتّتنا.
محمد القوماني