لا تخلطوا الحقّ بالباطل.. نحتاج إلى مواقف مبدئية وشجاعة

جريدة الرأي العام، العدد 39، تونس في 11 جانفي 2018

تحلّ الذكرى السابعة للثورة المجيدة في 14 جانفي يوم فرار المخلوع بن علي ونهاية نظام السابع من نوفمبر. وكم تشاء الأقدار أن يكون لرقم سبعة مرّة أخرى حضوره المميّز. فهو الرقم المشحون بالدلالات الرمزية والميتافيزيقية في المخيال الشعبي التونسي. وفي الذكرى السابعة تتصادم الإرادات في الخطابات وعلى أرض الواقع. إرادة من يسعون إلى إحياء الذكرى بافتخار وعزم على إنهاء السبع سنوات العجاف بإعطاء الأولوية للملف الاقتصادي والاجتماعي الذي يواجه صعوبات كبرى غير خافية وتأخر كثيرا عن الملف الانتقال الديمقراطي السياسي، وإرادة من تضرّروا من الثورة وكرهوا ريحها وضاقوا ضرعا بصمودها ونجاحها، فأعدّوا العدّة للانتقام منها وعزموا على إفساد إحياء ذكراها السابعة، وربما حنّوا، في محاولة يائسة، إلى استعادة أمجاد نظام السابع. وهذه زاوية نراها مهمّة في قراءة ما يحصل بتونس منذ أيام وقد يستمر لمدّة، وسط أوضاع اجتماعية متفجّرة ومزاج سياسي عام سلبي ومشهد إعلامي يختلط فيه الحقّ بالباطل. فكم نحتاج أكثر من أيّ وقت مضى إلى فهم أعمق لحقيقة ما يحصل وإلى مواقف مبدئية وشجاعة قد لا تلقى استحسانا عاجلا ممّن تتلبّسهم”الشعبوية” اليوم، ولكن ستكشف الأيام آجلا صوابيتها وجدواها وستقدّر حسن قدرها غدا.
تعوّد التونسيون بأجواء الشتاء الساخن اجتماعيا، رغم برودة الطقس. وبات منسوب الاحتجاج الاجتماعي أعلى بعد الثورة التي أفسحت مجال حرية التعبير نهائيا، وضمن دستورها حقّ الاحتجاج. لكن للأسف بدا منسوب الجريمة والجرأة فيها، أعلى في أجواء الحرية وضعف الدولة النسبي والتغطية السياسية عن الجريمة أيضا. وفي هذه السنة بالذات تتجدّد أشكال الاحتجاج المعهودة في السنوات الأخيرة خاصة، لكن يعطيها السياق السياسي شحنة وطابعا غير مسبوقين. فلوبيات الفساد التي أطلقت الحكومة الحرب عليها تجد فرصتها للانتقام وتبليغ رسائلها. والأجندة الانتخابية الضاغطة هذا العام والذي يليه تلقي بثقلها، فيندفع البعض ممّن يئنّون من صداع صعوبة تشكيل القائمات الانتخابية المنافسة في المحليات، والمتطلّعون إلى مواقع في الدولة لا تتيحها أوزانهم الانتخابية، يندفعون إلى حملات انتخابية مبكّرة تستثمر في التيئيس والإحباط، وتستغلّ أوجاع الناس ومزاجهم السياسي السلبي، لتحقيق مكاسب سياسية عاجلة على حساب الخصوم، حقا وباطلا، دون تقدير العواقب الآجلة على عموم الشعب وعلى الوطن. وليست بيات بعض الأحزاب والجبهات وخطابات قيادات حزبية ونوّاب بالبرلمان، سوى عيّنات. وهؤلاء قد لا يحنّون إلى نظام السابع، بل إلى أجوائه ومعجمه وتقسيماته وأولوياته. ويغيب عن هؤلاء، مهما كانت مواقعهم وتسمياتهم، أنّ خطاباتهم الموتورة وتبريراتهم الباطلة لعنف عصابات الإجرام الليلية، التي تقضّ أمن عموم التونسيين، وتستهدف أملاكهم العامة والخاصة، وتهدّد نعمة استقرارهم، يغيب عنهم أنّ المحصّلة النهائية لذلك، هي النيل من شرعية المطالب الاجتماعية المحقّة، ونبل الاحتجاج السلمي.
إنّ الاحتجاج، فضلا عن كونه حقا دستوريا، فهو إحدى تجليات الديمقراطية التي جاءت بها الثورة. لأنّ الديمقراطية تعطي فرصة لأفضل الحلول الممكنة، لكنها لا تأتي بالحلول التي تُرضي الجميع. وعلى هذا الأساس لا خوف من الظاهرة الاحتجاجية ولا حجّة للمتبرّمين منها. كما أنّه لا دلالة سياسية لها على أزمة الحكم، فلكلّ حكم مهما كان الماسكون بالسلطة، أنصاره ومعارضوه، والراضون به والمحتجون عليه. ومن المهمّ أن نسجّل هنا اتّفاق الخطابين الحاكم والمعارض على تثبيت شرعية الاحتجاجات السلمية وحمايتها. وهذا فارق جوهري مع منظومة القمع والترهيب ما قبل الثورة، التي يتغافل عنها المُخاتلون في تبييض نظام السابع. ولمّا كانت الثورة من أجل الحرية والكرامة، قد تداخل فيها الاجتماعي بالسياسي، وتوازى شعار “التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق” مع شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، ولم تكن مجرّد انتفاضة اجتماعية كما يسوّق البعض، فإنّه من الطبيعي أن يكون للاحتجاجات الاجتماعية الحالية رسائلها السياسية، بعد التباعد المسجل بين المسارين السياسي والاجتماعي. ولا نتردّد في الإقرار بأن ما تحقّق اقتصاديا واجتماعيا كان دون المأمول بكثير، من زاوية تطلّعات الناس وانتظارا تهم الكبرى. فقد كانت السنوات المنقضية سبعا عجافا. وإنّ الظروف الموضوعية الصعبة وسياقات الانتقال وتداعيات الثورة لا تبرّر التقصير والإخفاق على هذا الصعيد. والماسكون بالحكم مدعوٌون في ضوء ما يحصل إلى مراجعة خيارات وسياسات تبيّنت حدودها وسلبياتها. ولا يمكن بحال إنكار تأخّر إنجاز الوعود وارتفاع منسوب التشاؤم لدى الشباب خاصة ونفاذ صبر الناس وضيق العيش بالأغلبية. وإنّ الإصلاحات المتأكدة تحتاج إلى شجاعة في إقرارها لكنّها تحتاج إلى مرافقة للأوساط الضعيفة في تنزيلها. على غرار اقتراح البعض الزيادة العاجلة في الأجر الأدنى والترفيع في منحة العائلات المعوزة أو غيرها.
ومن جهة أخرى وجب التمييز بين بعض الزيادات في الأسعار التي أقرّتها الحكومة عملا بمقتضيات قانون المالية 2018، وبين غلاء المعيشة وتراجع المقدرة الشرائية، الناجمين عن أسباب أخرى، مثل تراجع قيمة الدينار التونسي وضعف الرقابة على الأسعار وجشع بعض الوسطاء والتجار وشبكات الفساد والاستغلال وغيرها. فقانون المالية الجديد لازلنا في أيّامه الأولى، ولا يمكن أن نفسّر به غلاء المعيشة الحالي والزيادات المفرطة المتوازية مع بداية العام الجديد. ولا بدّ أن نتذكر بأنّ الزيادات الهامة في الأجور طيلة السنوات السبع الماضية لم تفلح في الحدّ من غلاء المعيشة. كما أنّ لبعض إجراءات قانون المالية أغراض مشروعة متفق عليها وصوتت لها المعارضة ، بما في ذلك الجبهة الشعبية، ومنها معالجة أوضاع الصناديق الاجتماعية وإعادة التوازن التدريجي للمالية العمومية. وقد وعد رئيس الحكومة أن تكون 2018 بداية تراجع مديونية الدولة وتحسين نسبة النموّ. وهذه مسائل يختلط فيها الحق بالباطل أيضا وتحتاج إلى جهود اتصالية أكبر لرفع اللبس.
كم يبدو الدرس بليغا مرّة أخرى حين تُجمع أغلب الأوساط الشعبية والأحزاب والمنظمات الوطنية على إدانة العنف والجريمة، ويظهر القائمون بالتخريب والمتورطون في تحريضهم أو التغطية عليهم أقلية، مهما بدت أعمالهم مُزلزلة وأصواتهم عالية. فقد خلّف استهداف عصابات الإجرام لأمن التونسيين ومصالحهم، انزعاجا وغضبا ودعوات إلى مساندة قوّات الأمن والجيش في استعادة الاستقرار وفرض النظام وحماية الوطن. وإذ لا تغيب عن عموم التونسيين الأجندات الأجنبية والمحلية والأموال القذرة والاستثمار في اليأس والمخدرات لإرباك مسار الانتقال الديمقراطي بتونس، فإنّه يحقّ لهم أن يفخروا بإطلاق شرارة الثورات العربية وتصفيق أنصار الحرية في العالم للمنجز التونسي الكبير. فقد خرجت تونس للنور بثورة شعبها السلمية المُلهمة للبشرية، وبدأ المتابعون ينتبهون إلى خروج البلدان العربية مما سمّي الاستثناء الديمقراطي. كبرت الأحلام بدخول العرب عصر جديد، لكن حرّاس حصون الاستبداد والفساد سرعان ما التقطوا الدرس التونسي، فعزّزوا دفاعاتهم وتضامنوا كعاتدهم في حفظ أنظمتهم، فبدأ التٱمر على ثورات الربيع العربي لوضع حدّ لتمدّدها بقمع بعضها وتحريف مسارها ومحاصرة البعض الٱخر والانقلاب عليها ووضع كل العراقيل أمام نجاحها. لذلك يحق للتونسات والتونسيين أن يفخروا أيضا بالنجاح الاستثنائي لانتقالهم الديمقراطي مقارنة بمسارات بقية الثورات. وعليهم أن يعضّوا بالنواذج على مكاسبهم.
محمد القوماني

https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/26239838_1790223511001425_1092675791395047583_n.jpg?oh=39adeb7698b2ca0e0c86972d6f3fd48d&oe=5AE56C42

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: