قرطاج2.. من مأزق إلى أزمة مفتوحة: لا إصلاحات ولا هم يفرحون
لم تنجح الأطراف المشاركة في وثيقة قرطاج2 خلال التمديد الذي مُنح لها نهاية الأسبوع المنقضي، في التوصّل إلى توافق حول بقاء يوسف الشاهد رئيسا للحكومة أو استبداله. وكانت نصف ساعة تقريبا كافية صباح الإثنين 28 ماي 2018 ليستخلص رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي خلال اجتماعه برؤساء الأحزاب والمنظمات، أنّ التوافق متعذّر وليعلن تعليق النقاش حول الوثيقة. وبذلك انتهى مأزق قرطا2 حول النقطة 64 إلى أزمة مفتوحة في الزمان والمسار. لكن بالعودة إلى رصيد التونسيين في دلالات “التعليق” ومآلاته، تُطرح أسئلة عديدة حول هذا القرار. هل هو إنهاء لمسار قرطاج عامة الذي أسقط حكومة الحبيب الصيد وجاء بحكومة الشاهد؟ هل ينهي التعليق عمليا مسار التوافق وسردية الحكومة الوحدة الوطنية؟ ماذا نقرأ في تصريحات الزعماء عقب نهاية اجتماع الإثنين بقرطاج؟ ما تداعيات هذه الأزمة على أوضاع البلاد؟ وما هي السيناريوهات الممكنة في المستقبل؟
كان رئيس الجمهورية قد أعلن يوم الجمعة 25 ماي أنّ اجتماع أطراف وثيقة قرطاج سيكون الأخير، وإن قبل بتمديده إلى الإثنين لفسح المجال للمتحاورين للعودة إلى مؤسساتهم ومزيد التشاور، فيبدو أنّ ما رشح إليه من أخبار نهاية الأسبوع جعله يأتي إلى لقاء الإثنين حاسما أمره. وهذا ما يفسّر سرعة إنهاء الاجتماع وإعلان تعليق النقاش حول الوثيقة. وبدا تصريح مستشارة الرئيس السيدة سعيدة قراش مقتضبا وغامضا في آن. إذ أعلنت “تعليق العمل بوثيقة قرطاج”، وهي التي لم يتمّ توقيعها ولا بداية العمل بها أصلا. فضلا على أنّ “وثيقة قرطاج” آلية سياسية غير رسمية (موازية) لها تعبيرات ودلالات متعدّدة تفوق الوثيقة ذاتها التي تضمنت في نسختها الأولى مجرّد إعلان مبادئ وأولويات وطنية دون تفاصيل في البرنامج. ولذلك قد يكون التعليق إنهاء لمسار بأكمله وفتح الاحتمالات على مسارات جديدة. كما أنّ التعليق غير محدّد في المدّة، بما يجعله قابلا للاستئناف السريع أو إطالة المدة التي قد تصل إلى إنهاء المسار أصلا.
من جهة أخرى أفادت تصريحات الشيخ راشد الغنوشي والسيد سمير الطيب أن التعليق “مؤقت”. وبالعودة إلى تجارب سابقة نعرف أن مصطلح التعليق يعني ترك الباب مفتوحا لتغيير القرار. فقد تم تعليق الحوار الوطني في 2013 و2014 أكثر من مرة ثم استئنافه، كما تمّ تعليق الدروس مؤخرا بالتعليم الثانوي ثم استئنافها، فضلا عن تعليق الحوار النقابي مع الحكومة أو أطراف ثم استئنافه. لذلك خفّف الغنوشي من وطأة قرار رئيس الجمهورية واعتبره طبيعيا في مسار المفاوضات. في حين قرأ متابعون في تصريح نور الدين الطبوبي، وإشارته إلى أنّ الاتحاد لم يعد ملزما بشيء، ضربا من التهديد واحتمالات تصعيد المواجهة الاجتماعية بين اتحاد الشغالين والحكومة. وقد أشار بيان المكتب التنفيذي الأخير لاتحاد الشغل إلى تحميل الحكومة مسؤولية تأخير المفاوضات الاجتماعية بل تعمّد المراوغة واللعب بحقوق الأجراء. ولا نستبعد أن تنشط وساطات ولقاءات ثنائية بين الأطراف الفاعلة خاصة لتطويق الأزمة والبحث عن توافق. وقد يكون رئيس الجمهورية قد استشعر تعقيدات المشكل، وعمق الخلاف، وصعوبات إنهاء مهام رئيس الحكومة دستوريا في ظل الانقسام، والتداعيات السلبية لتعميق الخلاف على الوضع الاقتصادي وصورة تونس لدى المانعين والمقرضين، فقرّر تلطيف الأجواء و”تغيير الساعة بساعة” كما يقول العامّة، ليمنح المعنيين فرصا أوسع للتفاعل وبداية حوار من نوع آخر، للوصول إلى تفاهمات قبل العودة إلى اجتماع قرطاج مجدّدا.
لكن يبقى السؤال الأهمّ كيف يعصف الخلاف السياسي حول النقطة 64، بالتوافق حول 63 نقطة أغلبها تتعلق بالإجراءات والإصلاحات ذات الطبع الاقتصادي والاجتماعي لإنقاذ البلاد؟ وهل الإصلاحات أهمّ أم الأشخاص؟ وهل انطلق الحوار حول قرطاج2 بهدف الإنقاذ أم بهدف إسقاط الحكومة؟ وهل المشكلة في البرنامج أم في الأشخاص؟، والحال أن الحكومات تغيرت مرات عديدة، والوضع لم يتغير إيجابيا. وكيف نضيّع فرصة تطبيق إصلاحات متأكدة في بلادنا، تم تضمين بعضها في وثيقة قرطاج2 بالتوافق، بسبب اختلاف في تقدير المصلحة حول الإبقاء على رئيس الحكومة أو استبداله؟ ومن المستفيد من انسداد الأفق والفشل في توافق الأطراف؟، والحال أنّ ذلك يضعف الجميع ولا طائل من ورائه. إنه من العبث حقا أن يتمّ التخلي على مقترحات خبراء بذلوا جهدا وقضوا وقتا طويلا وثمينا في جلسات عديدة لصياغة وثيقة قرطاج2، وتضييع الفرحة والمصلحة عن التونسيين. لذلك يبدو الضرر الأكبر في عدم التوافق حول قرطاج2، هو تعطيل الإصلاحات التي يتعذّر إنفاذها في ظلّ خلافات حادة بين الحكومة واتحاد الشغالين أو عدم التوافق في البرلمان بين كتلتي الحزبين الرئيسيين. والخطر الأكبر أيضا في انتقال الخلاف من قرطاج إلى باردو بما يؤثر سلبيا على استكمال المؤسسات الدستورية ويعطّل مشاريع القوانين في البرلمان، لا سيما العاجلة منها، بما يؤدي إلى تعطيل العمل الحكومي.
لا مصلحة في تضخيم التداعيات السلبية لقرار رئيس الجمهورية وتخويف التونسيات والتونسيين، وإشاعة مناخ سلبي، يزيد في تنفير المستثمرين، ولا في تذكية “العنتريات” باسم الخلاف وتغذية الاستقطاب المقيت من جديد، والحديث عن غالب ومغلوب، أو وطني وخائن، وباحث عن المصلحة والوطنية وحريص على المصالح الشخصية أو الفئوية. وقد أحسن الغنوشي حين أبرز في تصريحه أنّ الخلاف ليس مبدئيا ولا عقائديا، بل مجرد خلاف في تقدير المصلحة. لكن أيضا لا مصلحة في التفاؤل المصطنع ودسّ الرأس في الرمل كما يقال.
فنحن إزاء وضع دقيق وخلاف بالغ التعقيد، وإذا لم نحسن كبح ما هو ذاتي، ونعلي ما هو مشترك ووطني، فقد ننكث غزلنا الذي قضينا فيه وقتا وجهدا غير هيّنين. فهدم القائم دون وضوح في البديل الأفضل مغامرة لا تتحملها البلاد ولا تقوى على تداعياتها السلبية على الاستقرار وصورة تونس في الخارج. كما أنّ التشبث بالمصلحة العليا والوحدة الوطنية والتشديد على الإصلاحات واستمرار التوافق أهم بكثير وأنفع من التشبّث بالأشخاص وأضمن للاستقرار.
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 59، تونس في 31 ماي 2018.