في ذكرى وفاة الزعيم الحبيب بورقيبة: تصالحنا حول الماضي من شروط مصالحتنا في الحاضر
جريددة الرأي العام، العدد1، تونس في 06 أفريل 2017.
أثارت الشهادات المسجّلة بجلسات الاستماع العلنية لهيئة الحقيقة والكرامة بمناسبة إحياء الذكرى الواحدة والستين للاستقلال، جدالا حادا خلال الفترة الأخيرة حول تاريخ الحركة الوطنية التونسية ولاسيما حول الزعيم الحبيب بورقيبة وعلاقته برفاقه ممّن اختلف معهم حول صيغة الاستقلال التي عرضتها فرنسا. ذهب بعضهم إلى حدّ الطعن في وطنية بورقيبة واتهامه بخدمة الإملاءات الفرنسية في توجيه مسار الحركة الوطنية المقاومة للاستعمار وتصفية الزعماء الوطنيين والقبول باستقلال منقوص وخدمة المصالح الفرنسية بالوكالة بعد الاستقلال. وانبرى آخرون للدفاع عن بورقيبة وبيان دوره التاريخي في توحيد الحركة الوطنية وقيادتها بذكاء إلى تحقيق هدفها في الاستقلال وإرساء قواعد دولة عصرية والوصول بتونس في فترة حكمه إلى مستويات متقدمة في التعليم والصحة والبنية التحتية وتحرير المرأة وتحقيق التنمية بما حاز على رضا الشعب والتفافه حول زعيمه في الداخل وبما نال استحسان المتابعين في الخارج وجعل من تونس مثالا يحتذى.
وليست هذه المواقف المعبّر عنها في الفترة الأخيرة سوى تكرارا لآراء سائدة منذ عقود تشقّ النخب السياسية والثقافية على وجه الخصوص. ولذلك فإنّ أهميتها لا تكمن في التصريح بها، بل في مغزاها ودلالاتها من خلال سياق التعبير عنها. فاستحضار بورقيبة بعد الثورة الذي صار جزءا من الماضي، لم يكن سوى عنوانا لتذكية انقسامات وتجاذبات في الحاضر. والخلاف الحاصل في الفترة الأخيرة ليس خلافا حول تاريخ تونس ومن يكتبه كما يحلو للبعض تصويره، بل خلاف حول مسار العدالة الانتقالية والتسوية المطلوبة بين من استفادوا من منظومة الحكم السابق، ومن يتطلعون إلى الاستفادة من الثورة على ذلك الحكم لاسترداد حقوقهم وكشف حقيقة ما تعرضوا له من اضطهاد.
يتخفّى البعض وراء شعار استمرار “البورقيبية” لاستمالة أنصار منظومة ما قبل الثورة في مواجهة خصوم سياسيين جاءت بهم الثورة إلى الحكم، وكان بعضهم الآخر قبل ذلك، يشتغل على الترويج للثورة على “البورقيبية” واتهام بورقيبة بتصفية رفاقه في الكفاح التحريري وعلى رأسهم صالح بن يوسف وقمع معارضيه من مختلف الاتجاهات أثناء حكمه، لتبرير إقصاء من عملوا ضمن منظومة حكم ما قبل الثورة. ويتأكد في كل مرة أن الخلاف حول الحاضر يستدعي التاريخ الذي “يبرّر كل ما نريد تبريره”. وأنّ الخلاف حول الماضي يزيد في صعوبات التفاهم في الحاضر.
وليس موضوع “البورقيبية” في هذا السياق سوى مثالا عن عقل سياسي عربي يئن تحت وطأة التراث ويستدعي التاريخ بطريقة انتقائية ليذكّي معارك الحاضر المغلوطة، على غرار الصراع الطائفي السني الشيعي، وليظلّ على هامش الحداثة السياسية التي يبدو أن من شروط تحقّقها التحرّر من وطأة التراث كما تذهب إلى ذلك أهم مراجعات الفكر العربي المعاصر واستخلاصاته.
ونحن إذ نستحضر الزعيم بورقيبة رحمه الله تعالى في الذكرى السابعة عشر لوفاته، وفي ظلّ المشهد السياسي لما بعد أكثر من ست سنوات من ثورة الحرية والكرامة، وما يتطلبه استكمال إنجاح الانتقال الديمقراطي، نرى من المهمّ أن نتقدّم عمليا في إجراء تصالح مع ماضينا ييسّر مصالحتنا المطلوبة والحيوية في الحاضر وتعزّز شروط نجاحها واستمرارها في المستقبل.
إذ يخطئ ويجانب الموضوعية ولن ينجح في إقناع عموم التونسيين من يحاول الترويج لصورة “تقديسية” للزعيم الحبيب بورقيبة، المبرأ من الأخطاء والعيوب. والعكس صحيح تماما. أي يخطئ ويجانب الموضوعية ولن ينجح في إقناع عموم التونسيين من يحاول الترويج لصورة “مشيطنة” لبورقيبة، تشكّك في وطنيته ولا ترى في حكمه غير الأخطاء وتنكر عليه أيّة إنجازات.
فبورقيبة فرض نفسه زعيما للحركة الوطنية ورئيسا مؤسسا للدولة الوطنية، ولن تستطيع أيّة مناورات سياسية مهما كان حجمها وأيّة دعاية مهما كان الواقفون وراءها أن تنال من هذه الصورة. لكن في المقابل لن يستطيع المدافعون عن بورقيبة إنكار الحقائق الدامغة في النهج السياسي الاستبدادي الذي سلكه في حكمه، بتصفيته خصومه وإقصائهم من المشهد، سواء من رفاق دربه أو من مخالفيه من القوميين والماركسيين والإسلاميين وغيرهم. وبإفراغ مكسب النظام الجمهوري من محتواه بفرض رئاسة مدى الحياة لبورقيبة، بعد استيفائه لعدد الدورات التي يتيحها له دستور 1959.
إنّ للمصالحة الوطنية المتأكدة شروطا عديدة، نحسب أنّ التصالح مع الماضي البورقيبي أحدها. وليس ذلك بعزيز البتّة إذا تعقّل الجميع وأدركوا فضائل التحلّي بالموضوعية وتغليب المصلحة الوطنية على المناكفات الأيديولوجية والسياسية والضغائن الشخصية. فماذا على “البورقيبيين” لو اعتذروا بشجاعة عن النهج الاستبدادي للحكم قبل الثورة، الذي كانت فيه المكاسب التي لا ينكر فضلها إلا جاحد في المجالات المختلفة، لا سيما التعليمبة والاجتماعية والاقتصادية، على حساب التنمية السياسية المفقودة. وماذا على خصوم “البورقيبية” لو اعترفوا بفضائل هذا الزعيم التاريخي الذي لا يلغي استبداده بالحكم وشخصنته له، ما كان يتمتع به من “كاريزما” وما كانت تحظى به اجتهاداته الموفّقة من تأييد شعبي وتقبّل واستحسان خارجي. فبهذه المصالحة الهامة والبسيطة مع الماضي الذي يبدو بورقيبة موضوعها، يضعون أحد أسس مصالحة وطنية في الحاضر لم تعد تحتمل التأجيل.
فالثورة تجبّ ما قبلها، ومن ينخرطون في أهدافها ومسارها، ويلتزمون بدستورها، مهما كانت مواقعهم قبلها ومهما كانت إسهاماتهم في قيامها، لا فضل بينهم ولا عداوة، وأيديهم ممدودة لبعضهم لطيّ صفحة الماضي بسلبياته ومكاسبه، ولكتابة صفحات جديدة مشرقة من تاريخ تونس، والتنافس على خدمتها وتقديم البرامج الكفيلة بالاستجابة لتطلعات شعبها، والتداول على حكمها بما تقتضيه نتائج انتخاباتها الحرة والتعددية.