عدم مرور حكومة الجملي أو سقوط وهم المستقلين
حسمت الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب ليوم 10 جانفي 2020 الجواب عن سؤال الفترة الأخيرة هل تمرّ حكومة الجملي أو لا تمرّ؟ بحجب الثقة عن التشكيلة المقترحة ودفع الخيار دستوريا إلى حكومة الشخصية الأقدر التي يعينها رئيس الجمهورية بعد التشاور مع الأحزاب. ويحقّ لنا الٱن بعد أن أخذنا مسافة شعورية وزمنية عن ذلك الحدث، أن نتساءل عن أهمّ أسباب فشل الجملي في نيل حكومته لثقة البرلمان، والتي نرجعها أساسا لمخالفته لأصل التكليف الممنوح له من حزب النهضة وإصراره على خيار “حكومة الكفاءات الوطنية غير المتحزبة”. ولذلك نعدّ عدم مرور حكومة الجملي سقوطا لوهم “المستقلين” الذي كثيرا ما أدخل اللّبس على المشهد السياسي التونسي. واختاره البعض طريقا للتحيّل الانتخابي أو الانقلاب على نتائج الانتخابات. وكان أهمّ أدوات أطراف داخلية وخارجية في ترذيل الأحزاب وإضعافها.
كم تبدو مراجعة “مُسلّمات” في الفكر أو في السياسة ضروريّة للتخلّص من معوّقات ذهنية في فهم الواقع المعيش كما هو، وليس بصفته أبنية ذهنية في الخطاب السائد، أو لكشف بعض المغالطات. فبعض المقولات في السياسة تتّخذ صفة “المسلّمات” ويتمّ البناء عليها، ليس بسبب وضوحها وقوّة منطقها الداخلي الذي يجعل منها قاسما مشتركا لا يحتاج إلى استدلال، بل تتّخذ صفة “المسلّمات” من كثرة تكرارها والترويج لها، وسكوت المتقبلين لها وعدم فحص مضمونها ومناقشة صدقيّتها، رغم عدم صلابة مرجعيتها النظرية وهشاشة دلالتها الواقعية. ومن المقولات التي نروم مراجعتها في هذا السياق في علاقة بحكومة الجملي التي لم تنل ثقة البرلمان مؤخرا أو بحكومة الشخصية الأقدر المنتظر عرضها على مجلس نواب الشعب لاحقا.
فمع كل مناسبة لتشكيل حكومة جديدة أو إجراء تعديل وزاري يعود الحديث في تونس عن “تحييد وزارات السيادة” و”المحاصصة الحزبية” و”الكفاءات المستقلة”، دون تمييز بين المراحل والسياقات، على غرار الفرق بين الإعداد لانتخابات عقب ثورة أو أزمة سياسية حادة وحوار وطني، وبين استحقاقات حكم عقب انتخابات تنافسية حرة وتعددية قبل الجميع بنتائجها.
كانت الدعوة سنة 2011 لتحييد حكومة السيد الباجي قائد السبسي رحمه الله التي أُوكلت إليها مهمّة تنظيم أوّل انتخابات إبّان الثورة لأعضاء المجلس الوطني التأسيسي. وتم اشتراط عدم الترشّح على أعضائها، حتى لا يستفيدوا من مواقعهم التي لم يتأهلوا إليها بمقتضى انتخابات، وحتّى تتساوى فيها حظوظ جميع المتنافسين. وكان ذلك أمرا محمودا في سياقه. وخلال حكم الترويكا الفائزة في 2011 تمّت المطالبة بتحييد وزارات السيادة في مرحلة تأسيسية كانت المهمة الأساسية فيها كتابة دستور جديد، وليس حكم البلاد. ومع اندلاع أزمة سياسية حادّة، عقب اغتيالات سياسية واستفحال الإرهاب، واحتداد التجاذبات حول الهوية والحداثة واتجاهات الدستور وموعد انتهاء المجلس الوطني التأسيسي، تمّ التوافق في إطار الحوار الوطني على خريطة طريق كان من مقتضياتها تشكيل حكومة “مستقلين” تعدّ لانتخابات تشريعية ورئاسية في نهاية 2014. وقد تولّى السيد المهدي جمعة رئاسة تلك الحكومة التي توافقت أطراف الحوار الوطني على أعضائها. وبدا الخيار مقبولا أيضا في سياقه. لكن هل تستقيم الدعوة مجدّدا إلى “حكومة كفاءات مستقلة”؟ والحال أنّ البلاد خاضت انتخابات رئاسية وتشريعية نهاية 2019، والتي يُفترض أن تخرجنا من المرحلة الانتقالية إلى الحكم المستقر، ويتمّ تشكيل الحكومة ومؤسسات الدولة والمشهد السياسي عموما على مقتضى نتائج تلك الانتخابات.
لذلك تبدو الدعوة مجدّدا من قبل أحزاب أو شخصيات أو جهات إعلامية أو غيرها إلى استبعاد الأحزاب باسم رفض المحاصصة، أو البحث عن الكفاءة، نشازا ديمقراطيا تونسيا. فهذه الدعوة، علاوة على تنكّرها لمقتضيات الديمقراطية من تعدّدية حزبية واعتماد الانتخابات أساسا وحيدا لشرعية الحكم، فهي ادّعاء بأحقية قيادة البلاد، استنادا إلى جدارة مزعومة باسم “كفاءة” يحتكرها البعض من غير المتحزبين وينفونها عن غيرهم من الكفاءات من المنتمين للأحزاب. وقد رفضت مختلف الأحزاب المفترض مشاركتها في الحكم استنادا إلى نتائجها في انتخابات 2019 رئاسة حركة النهضة للحكومة، وهي الفائزة بأكبر المقاعد في تلك الانتخابات والمخوّلة دستوريا لتعيين رئيس الحكومة وتكوينها. بل بادرت أحزاب على غرار تحيا تونس وقلب تونس إلى الدعوة إلى حكومة كفاءات مستقلة. وهو الخيار الذي ارتآه السيد الحبيب الجملي في نهاية مشاوراته، بعد فشل المفاوضات في تشكيل حكومة ائتلاف حزبي مفتوح على كفاءات غير متحزبة.
لا نظلم طرفا حين نقول بوضوح وصراحة أنّ الدعوة إلى حكم الكفاءات المستقلة مهما كانت مبرراتها وعناوينها، نراها قضما مستمرا للديمقراطية وانقلابا ناعما عليها. ولعلنا لا نبالغ ّ حين نقول أنّ منطلقات هذا الخيار تقوم أساسا على اعتبار أنّ مشكلة تونس الكبرى في نظر البعض تكمن في وجود حزب قويّ اسمه “حركة النهضة”، وأنّ استبعاده من الحكم شرط للحلّ، كما ألمح إلى ذلك الأستاذ أحمد نجيب الشابي في أكثر مناسبة إعلامية. فلسان حال هؤلاء أنّ مشاركة النهضة في الحكم عنوان فشل مهما كانت المؤشرات والأرقام إيجابية، وأنّها وحدها تتحمل مسؤولية إدارة البلاد بعد الثورة وعليها يقع عبء المرحلة، وهي الحاكم الفعلي مهما كانت تمثيليتها في الحكومة وفي مواقع المسؤولية والقرار في مؤسسات الدولة، وأنّ الديمقراطية الحقيقية هي كل الطرق التي تؤدي إلى إقصاء النهضة من المشاركة في الحكم، وفي ذلك المستقبل الزاهر لتونس وسعادة التونسيين.
ومن بعد تشكيل كل حكومة أو تعديلها تأتي المطالبة بمراجعة التعيينات وبقية المسلسل. ولا ينسى الجماعة بالطبع التذكير بأنّ المشكلة الرئيسية تبقى في النظام السياسي الذي أقرّه دستور 2014 بقيادة حركة النهضة، والذي يستوجب تغييرا، وإن لم تكتمل مؤسساته بعد. وأحيانا يضيفون انتقاد القانون الانتخابي الذي صاروا ينسبونه للنهضة أيضا، وينكرون أنّهم من ساهموا في وضعه من طرف الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، لتحجيم تمثيلية النهضة ومنعها من أغلبية برلمانية، وفسح المجال للأحزاب الصغيرة وفق نظام أكبر البقايا. وهو خيار نتفهّمه في سياق مؤسسة تأسيسية، ولكن لا نراه صالحا لبرلمان دائم.
اضطررنا لاستحضار ما تقدّم من معطيات للاستدلال على أنّ خيار السيد الحبيب الجملي في تشكيل “حكومة كفاءات مستقلة” لم يكن مناسبا تماما لمقتضيات المرحلة السياسية التي نحن بصددها. وأنّه قد فوّت عليه فرصة تمرير حكومته في البرلمان، لأنه استبعد الأحزاب والكتل في إقرار التركيبة قبل عرضها، ثم جاء يطلب أصواتها. ولذلك نعدّ عدم تمرير حكومة الجملي سقوطا لوهم “المستقلين”.
ونتطلّع إلى الاستفادة من التجربة الأخيرة في القطع مع منطق الإقصاء والتنافي بين الأحزاب والكتل، واستبعاد الحوار في موضوع المستقلين مجدّدا، بمناسبة المفاوضات حول حكومة الشخصية الأقدر التي سيعينها رئيس الجمهورية، والتي يُفترض أن تقود حكومة كفاءات لائتلاف حزبي معلن مفتوح على غير المتحزبين. فمن يشكلون الحكومة هم المعنيون أساسا بالتصويت لها في البرلمان وتشكيل الحزام السياسي لدعمها.وهم المسؤولون عن نتائجها أما ناخبيهم . وتلك أبجديات الديمقراطية كما يقولون.
محمد القوماني
*مقال منشور بالعدد 140 من أسبوعية “الرأي العام”، تونس في 16 جانفي 2020.
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25