خطر داهم؟! وجاثم؟!
تتوغّل تونس أكثر فأكثر في الضبابية والفراغ بعدما يزيد عن خمسين يوم من القرارات الرئاسية ليوم 25 جويلية التي عطّلت المسار الديمقراطي وأدخلت البلاد في حالة استثنائية. وقد أعادتنا كلمة رئيس الجمهورية مساء الثلاثاء 14 سبتمبر 2021 في لقائه مع زملاء له من أساتذة القانون الدستوري إلى مربّعات الغموض ورفض الحوار ومهاجمة الدستور والبرلمان والازدراء بمخالفين لا يسميهم ووصف المشهد السياسي ب”الوباء”، ووضع اشتراطات لتشكيل الحكومة طبق زمن للرئيس، يبدو غير متطابق مع زمن البلاد وأولويات الناس التي لا يأخذها بعين الاعتبار. وفي حين يركّز رئيس الجمهورية خطابه على إبراز تقصير في أداء الحكومة على غرار وضع المستشفى المحلي بالرديف الذي عاين حالته المزرية مساء 24 جويلية 2021، يعود بسرعة لمهاجمة البرلمان ووصفه بالخطر الداهم و”الجاثم” و”القائم”. وفي المقابل تتعالى مع الأيام وتتزايد أصوات أكادميين وسياسيين ونشطاء وإعلاميين في التحذير من مخاطر الاستمرار في الحالة الاستثنائية، وعدم التقيّد بأحكام الدستور، وربما العمل على إلغائه، وسعي رئيس الجمهورية إلى احتكار السلط جميعا، والنزوع إلى الحكم الفردي المطلق، واعتبار ذلك “الخطر الداهم” على البلاد.
لم يُفصح رئيس الجمهورية في كلمته بمناسبة إعلان قراراته عن الخطر الداهم الذي يهدّد كيان الدولة وأمن البلاد واستقلالها ويتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، كما ينصّ على ذلك الفصل 80 من الدستور الذي يمنح الرئيس حق اتخاذ تدابير استثنائية بشروط إجرائية لتأمين “عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال”. ظلّ الرئيس في تدخلاته المتواترة يدور حول عناوين مختلفة للخطر، لعلّ أهمها كوفيد 19 وما حصده من أرواح، وضعف أداء الحكومة، وشبح إفلاس الدولة، لكنه لم يلبث حتى أفصح بعد أيام على أنّ البرلمان هو “الخطر الداهم” و”الجاثم” و”القائم” و”القاتل”. وهذه سابقة حقا، تزيد مشهد الحكم في بلادنا سريالية.
فليس أعجب من أن تكون إحدى السلط الأساسية (البرلمان المنتخب) “خطرا داهما مهدّدا لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها…” بنص الدستور. وما مسؤولية رئيس الجمهورية قيس سعيد الذي من واجبه أن “يسهر على احترام الدستور” في عدم اتخاذ التدابير اللازمة في الوقت المناسب قبل أن يتحوّل الخطر الداهم إلى جاثم وقاتل؟ ولا مصلحة في العودة إلى الوراء واستعادة أجواء المناكفات السياسية في مجادلة رئيس الجمهورية ورئيس الديبلوماسية، عن مسؤوليته في تأخّر حصول تونس عن مساعدات من اللقاحات، والذي يكرّر في مناسبات عديدة أنّ تدخله في الموضوع بعد 25جويلية فتح الجسور برّا وبحرا وجوّا، ليتم تزويد بلادنا باللقاحات والمساعدات الطبية، بعد أن حصد الفيروس اللعين آلاف أرواح التونسيين.
هل صار الرئيس قيس سعيد يتّخذ من الفصل 80 من دستور 2014 الذي “قُدّ على المقاس” حسب رأيه، دستورا له على المقاس أيضا؟ وهل يريد أن يجعل من القرارات الرئاسية الاستثنائية سلطة تشريعية دائمة بعد التمديد في “تعليق اختصاصات مجلس نواب الشعب إلى إشعار آخر”؟ وهل يريد لحكومة الرئيس التي سيسمّي رئيسها ويعيّن أعضاءها ويضع برنامجها في الحكم كما يتجلى في كلمته الأخيرة مساء الثلاثاء 14 سبتمبر 2021، أن تكون حكومة لفترة طويلة حتى الانتخابات القادمة التي لا ندري أجلها؟ وما هي الصيغة الدستورية التي تتيح تشكيل حكومة لا يمنحها البرلمان ثقته؟ ما دام الرئيس لا ينفك عن التذكير بالتزامه الشرعية والعمل ضمن أحكام الدستور، أم إنّ الاستثناء يصير قاعدة في الحكم السريالي؟
تعالت أصوات أحزاب هامة وبعض النخب خلال الأيام الأخيرة داعية رئيس الجمهورية إلى التزام أحكام الدستور والتحذير من تعليقه كليا كما صرح أحد مستشاريه. وتكثّفت الدعوة داخليا وخارجيا إلى إفصاح رئيس الجمهورية عن رؤيته للمرحلة وخطواته للخروج من الحالة الاستثنائية واستئناف المسار الديمقراطي المعطل وتصحيه في ضوء أخطاء الماضي ومستجدات ما بعد 25 جويلية. وكانت خطابات الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي لافتة في هذا الاتجاه، خلال الأيام الماضية. فهل تعجّل الاستفاقة السريعة لتونس الثورة، وتونس ما بعد الثورة، والانخراط المتزايد في الدفاع عن الحقوق والحريات والضغوط من أجل إنهاء الحالة الاستثنائية، في تعجيل رئيس الجمهورية بالتدارك وفتح باب الحوار أمام شركاء الوطن، للتعاون على تجاوز أزمة غير مسبوقة؟ وما دام المطلوب تعديل الدستور وليس إلغاءه، فلماذا نخلع الأبواب المفتوحة؟ فهذا متاح بمقتضى الدستور نفسه ومتفق عليه ولرئيس الجمهورية أولوية حق المبادرة فيه.
ذكر رئيس الجمهورية في كلمته الأخيرة أنّ المشكل سياسي وليس دستوريا. وهذا وضوح مهم يساعد على حلحلة الأوضاع باتجاه الخروج من الأزمة. فلا يجب أن نغرق مرة أخرى في خلافات النخب وننسى أولويات عموم التونسيين. فالخطر الداهم بلا شك هو الوضع الاقتصادي الذي تزداد مؤشراته سوءا، واختلال المالية العمومية وشبح الإفلاس المخيم على البلاد بسبب عدم توفير موارد ميزانية 2021 ولا 2022، فضلا عن مخاطر العقوبات والصعوبات الاقتصادية بسبب ردود أفعال أطراف إقليمية ودولية. وليس الاستمرار في غلق حدودنا مع الجارة ليبيا، مهما كانت دوافعه، سوى عنوانا سيئا في هذا الاتجاه. فقد ظلت حدودنا مفتوحة على الأغلب زمن الثورة في البلدين، وزمن الحرب في ليبيا.
قد تفرقنا الآراء والمقاربات والتأويلات والمواقع، لكن علينا أن نضلّ موحّدين حول المصالح المشتركة لعموم التونسيين. ولا تُدار البلاد ب”التخميرات” ولا ب” التشنجات وردود الأفعال والتشفي” على حدّ قول ألأمين العام نور الدين الطبوبي أو كما قال، مهما كان المعنيّون.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 222 تونس في 16سبتمبر 2021
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25