خطاب تحريضي لحرائر النهضة ورجالها المناضلين
شاركتُ بكل فخر في المظاهرة الأخيرة بباردو التي دعا إليها “مواطنون ضدّ الانقلاب” (المبادرة الديمقراطية) يوم الأحد 14 نوفمبر 2021، دفاعا عن الدستور والبرلمان واستقلالية القضاء. تأخّرت قليلا في مكان وقوفي عن زملائي من النوّاب الذين كانوا يتصدّرون الجموع. أتاح لي موقعي مصافحة عدد هام من المشاركين والتحدّث معهم. كانت مشاعرهم الصادقة تغمرني بسعادة استثنائية، وتسبق كلماتهم الممزوجة شكرا وتشجيعا وتحريضا ولوما أحيانا. ولم يبخل كثيرون منهم باقتراحات وجيهة في تطوير نضالنا حتى يسقط الانقلاب. مكثت حتّى الساعات الأخيرة ولم ينقطع تبادل السلام والحديث مع أخوات وإخوة من ربوع تونس المختلفة، جمعتني معرفة سابقة أو لقاءات ببعضهم، وكان أغلبهم ممّن يعرفونني من جهتهم فقط. كان من بينهم أصدقاء من المرحلة التلمذية أو الجامعية، أو تلاميذ سبق أن درّستهم منذ عقود أو زملاء في العمل أو أصدقاء جمعتنا أنشطة أخرى. كان الحضور متنوّعا، ورغم ما كان يبدو لي من أنّ أغلبهم من مناضلي حركة النهضة من أجيال مختلفة، فلم تكن تعنيني التفاصيل ولا طبيعة العلاقة، “فوجه الثوّار واحد في روحي” على حدّ تعبير شاعرنا المتميّز مظفر النواب.
استمرّت المشاعر النبيلة فيّاضة والكلمات متشابهة على طول الطريق حتى وصلت إلى سيارتي التي وضعتها بعيدة. وكانت سيارات بعضهم أبعد. ومن ذكرى ذلك اليوم المجيد، وتحيّة إكبار واعتراف لتلك الحشود ممّن تحدّثت معهم أو لم يحصل بيننا حديث مباشر، أكتب هذا الخطاب التحريضي، بعيدا عن التحفّظات المعهودة، متوجّها به إلى حرائر حركة النهضة ورجالها المناضلين على وجه التخصيص، ولسائر حرائر تونس وأحرارها الرافضين للانقلاب على وجه العموم، سيما ممّن حضروا المسيرة أو منعوا من الالتحاق بها. فرفع المعنويات والهمم، والتحريض على الخير، خلافا لعكسه، من المسائل المستحسنة والمرغوبة في سياقها.
1 ـ تأكّد المعدن النفيس لمناضلي حركة النهضة الذين أخصّهم بالخطاب، دون أن يبخس ذلك في شيء خصال سائر المناضلين ومكانتهم. فللمرّة الرابعة على التوالي يلبّون نداء الواجب في ظرف قصير، بما يفوق التوقّعات. منذ 18 سبتمبر مرورا ب26 منه و10 من أكتوبر وصولا إلى 14 نوفمبر، يأتي المناضلات والمناضلون من كل فجّ عميق إلى العاصمة تونس، بأعداد متزايدة باطّراد في كل مناسبة، ليهتفوا بصوت واحد “يسقط الانقلاب” و”الشعب يريد ما لا تريد” وغيرها من الشعارات الرافضة للحكم الفردي والمدافعة عن الدستور والشرعية والديمقراطية.
لم تمنعهم من المشاركة أسباب لا تخفى، ومنها قلّة ذات اليد بالنسبة لبعضهم ولا كبر السنّ ولا الأمراض المزمنة ولا بُعد المسافة. ولم تثبّطهم خاصة الأراجيف المستهدفة لحركة النهضة والشيطنة غير المسبوقة لها، ولا جهنّم التي تصبّ على رأس قيادتها من منابر إعلامية متعدّدة وألسنة خبيثة تتعمّد الكذب والتشويه. كما لم تُثنهم الضغوطات الأمنية المباشرة والمقنّعة، والاستفزازات المختلفة عن بلوغ الهدف. حتّى كرّر بعضهم المحاولة وغيّروا الطرق، بل التحق عديدون بالمسيرة بعد إطلاق سارحهم من مراكز الأمن. فطوبى لكم حرائر حركة النهضة ورجالها المناضلين. وحقّ لكم رفع القبّعة. وواصلوا مسيرتكم فلن يخزيكم ربكم تعالى بحسن نواياكم ونبل أهدافكم.
2 ـ أثبت النهضويّون نساء ورجالا، ومن مختلف الأعمار والفئات والجهات، أنّهم ديمقراطيون يتعالون على جراحهم ويعلون المصالح العليا للوطن ويقدّمون الأهمّ على المهم في اللحظات الحاسمة. لم يتأثّروا بخلافاتهم الداخلية المشروعة التي لم تعد خافية، ولم يمنعهم غضبهم على قيادتهم ونقدهم لها، ولم يكترثوا بالاستهداف لحركتهم والسيناريوهات المحتملة والتحريض اليومي على وضع حدّ لنشاطها. ولم يتوقّفوا عند هوية من يدعون للتظاهر ضدّ الانقلاب وقيادتهم الميدانية للتحرّكات واعتلاء منابر الخطابة بينهم. فالدفاع عن الحريات الفردية والعامة وضمان الحقوق وعلوية الدستور واحترام الإرادة الشعبية المعبّر عنها من خلال صناديق الاقتراع واستقلالية السلط وتكاملها والرقابة عليها وغيرها من مقوّمات النظام الديمقراطي، أهمّ وأولى من استحضار اختلافات الآراء وصراع المصالح. فالوطن دوما قبل الأحزاب. وقد أقنعتم أيها النهضويون أنّكم منحازون للديمقراطية قبل الثورة وبعدها، وأثناء مشاركة حزبكم في الحكم أو بعد الانقلاب عليه. فكان منسوب الحريات العالي واحترام حقوق الإنسان العنوان الأبرز للعشرية، ومفخرة تونس في الخارج وعنوان سمعتها الجيّدة بين الأمم، رغم التعثّر الاقتصادي والاجتماعي في الداخل والأخطاء العديدة.
واليوم يتكالب عليكم أعداء الديمقراطية وأدعياؤها من القومجيين والفاشيين والأزلام وغيرهم، لينالوا منكم بدعمهم للانقلاب ومحاولة توجيهه ضدّكم، بعد فشلهم في الانتصار عليكم في المحطات الانتخابية العديدة. فتمسّكوا أيها النهضويّون بمبادئكم ولا يجرمنّكم شنآن خصومكم على أن تعدلوا، وامضوا على طريق الثورة والديمقراطية رغم أشواكها. فالنصر حليفكم بإذن الله. “الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ” (سورة آل عمران/الآية 173)
3 ـ تمّ استهداف النهضويّين في بعض مقرّاتهم يوم 25 جويلية من أقليّات قبل إعلان الانقلاب، وتحكّموا في ردود أفعالهم ولم ينجرّوا إلى الاستفزازات رغم وجودهم بكثرة داخل تلك المقرات. وتظاهروا يوم 26 جويلية أمام البرلمان مندّدين بالانقلاب ورافضين له. وتعرّضوا للعنف من بعض بلطجية الشعبوية ولم يردّوا الفعل. وانسحبوا مساء، وعاد بعضهم أدراجهم قبل الوصول إلى باردو بدعوة من قيادتهم، حتّى يقطعوا الطريق على من يعمل على جرّهم إلى العنف أو مواجهة أجهزة الدولة. وقد أبلغوا رسالتهم واضحة للداخل والخارج، يومها وخلال المظاهرات الأخيرة ضدّ الانقلالب، أنّ تونسيين أحرارا كثرا ضدّ إجراءات 25 جويلية، وأسقطوا بالضربة القاضية سرديّة أنّ “الشعب مع قيس سعيد”.
فاثبتوا أيها النهضويّون على سلميتكم، ومدّوا أيديكم إلى الأحرار من إخوانكم التونسيين، ولتتجمّع الأماني في باقة واحدة، ولتكن بوصلتكم معدّلة وأولوياتكم واضحة. فلا تهنوا حتى يسقط الانقلاب وتستأنف تونس مسارها الديمقراطي. وكونوا جزءا ممّن بعملون على تصحيح المسار وخدمة الناس وتحسين أوضاع بلادنا. فليس عيبا أن نخطئ، ولكن العيب أن نبني على الأخطاء أمجادا. وإذا كان الخطأ في عدم تحقيق تطلّعات الناخبين يُعاقب عليه سياسيا في الانتخابات الدورية، فإنّ الانقلاب خطيئة، وانتهاك الحقوق والحريات جرائم يعاقب عليها القانون ولن تسقط بالزمن.
ختاما أيّها النهضويّون “أشدّ على أياديكم وأبوس الأرض تحت نعالكم”. وسيكتب التاريخ فضلكم وكفاحكم وتضحياتكم، وستنقلبون إلى ربّكم ليجازيكم خيرا عن أعمالكم. “والآخرة خير وأبقى”. وقبل ذلك كله لا يفوتني أن أهمس في آذانكم بأنّكم من ملح هذه الأرض الطيبة وأديمها. وأنّ أغلبكم من أبناء الأحياء الشعبية والمناطق المهمّشة قبل الثورة وبعدها. وأنّكم من الوسط الاجتماعي الأكثر فقرا ومعاناة، وصاحب المصلحة في الثورة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
وأنتم منخرطون في الحزب الأكثر شعبية وانغراسا بين الناس، وممّن دفعتم أثمانا غالية لنضالكم قبل الثورة وبعدها. لستم مُخيّرين على سائر مواطنيكم إلاّ بما قدّمت أيديكم من خير. ولستم مُبرئين من العيوب والأخطاء كسائر الناس. وإنّ الأخطاء السياسية لقياداتكم في مختلف المستويات، في الحزب أو في الدولة، لا بدّ أن تكون موضوع تقييمكم الصارم ومحاسبتكم في أطرها وسياقاتها. فلا تقبلوا مزايدة أيّ طرف عليكم. ولا تسمحوا لأحد أن يستضعفكم وينفرد ببعضكم، فيمسّ من أجسادهم أو حقوقهم المادية أو المعنويّة. و”إنّ مع العسر يسرا”.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 231، تونس في 18 نوفمبر 2021
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25