حول استقالة محمد القوماني (3): قراءة تتجاوز الحدث نحو التحدث
.
فهم ما حدث بتونس في 2010/2011، ضروري جدا لفهم كل التداعيات اللاحقة، هروب بن علي شحن التونسيين بمزاج ثوري عال، السياسيون الذين كانوا يشتغلون في مربع النقد البناء والفكر الاصلاحي ومشاريع التسوية ومخططات المصالحة والتسويات الفردية، كلهم أخذتهم الروح الثورية التي لم تكن متوقعة ولم يكونوا مستعدين لها، حتى هيئة 18 أكتوبر كأقوى فكرة معارضة لبن علي لم تكن جاهزة لتسلم الحكم بل إن أبرز زعمائها نجيب الشابي قدّر عدم المغامرة بالذهاب الى المجهول إذا ما سقط بن علي، لذلك استجاب هو وأحمد ابراهيم لدعوتهما الى المشاركة في حكومة محمد الغنوشي يوم 13 جانفي 2011.
أول من رفع شعار dégage هي سهام بن سدرين في مقال باللغة الفرنسية عرّبه الصديق طه البعزاوي ، وكانت السيدة سهام تعرضت في عاصمة اوروبية الى خطف حقيبتها في محاولة لترهيبها وهي ترفع صوتها عاليا في الدعوة الى إسقاط بن علي.
الغنوشي كتب عن ثورة شعبية ستنطلق في الجهات وتنتهي الى وسط العاصمة، المنصف المرزوقي كان صاحب شعار “،لا يصلح ولا يصلح”.
في الداخل كان ثمة اشتغال على “الواقعية السياسية” في انتظار ما قد يفعله ملك الموت ببن علي الذي قيل منذ 2005 بأنه يعاني مرضا عضالا لن يمهله طويلا.
في الخارج كان سقف الخطاب عاليا وبدأت تحركات تشي بأن أمرا ما سيحدث.
الشرخ في المعارضة حصل بعد خطاب 13 جانفي حين قبل الشابي واحمد ابراهيم بحل وسط، ودعا الغنوشي عبر قناة الجزيرة الى مواصلة التحرك خاتما حضوره ب”الى الأمام” داعيا نجيب الشابي الى الانسحاب من حكومة الغنوشي.
قادة حركة النهضة في الداخل لم يكونوا متأكدين من أن ثورة شعبية بصدد محاصرة بن علي وأنه قد يهرب بسرعة عجيبة، لذلك كانت المغامرة بأحد قياديي الحركة حين تكلم في الجزيرة ليلة الخطاب الأخير وقال:”بن علي الذي أنقذ تونس في 1987 نريده أن ينقذها اليوم”.
نحن -يومها- بصدد مشهد غير مقروء وبصدد وقائع غير متوقعة وأيضا بصدد لحظات تحتاج عقلا سياسيا عبقريا لاتخاذ الموقف المناسب حتى لا تحصل كارثة إذا ما فشل الرهان على أحد الخيارين حيث لا وجود لخيار ثالث.
تفكيك “اللحظة” المكتنزة أسرارا والغازا وشيفرات وأسماء ، مهم جدا، لفهم ما حدث بعدها، ولا جدوى من رفع الصوت ومن خطاب البطولات والتضحيات والشعارات الكبيرة.
من رتب انتقال السلطة ؟ من جعل فؤاد المبزع رئيسا لدولة الثورة؟ ، من جاء بعدها بالباجي قائد السبسي ليكون رئيس حكومة؟.
ثم والأهم من ذلك هل كان قادة النهضة يحكمون فعلا؟ هل تسلموا كاتالوغ الدولة؟ كما تسلمه من قبل بورقيبة وبن علي ثم الباجي ثم سعيد الآن؟.
هل كانت الترويكا قيادة ثورية فعلا؟ هل كان مسموحا لها بممارسة الحسم الثوري؟ من هو “المسؤول الكبير” الذي ذكره الباجي رحمه الله قبل عرض قانون العزل السياسي الذي ذهب الشهيد شكري بلعيد قربانا من أجل تعطيله؟ من تدخل لمنع التصويت على الدستور في 25 جويلية 2013 بتنظيم جريمة اغتيال الشهيد محمد البراهمي؟.
من كان وراء عقد “مؤتمر أصدقاء سوريا” ؟ من كان يدير شبكات نقل شبابنا الى محارق الفتنة؟ من فرض حوارا وطنيا سلمت بموجبه النهضة الحكم وقد تأكد الغنوشي شخصيا بأن الأمور أفلتت من بين يديه، وقد قال في إحدى الجلسات :”نحن في ركن آمن من سفينة لا نعلم وجهتها”.
هل كان الغنوشي وحده يمتلك الأجوبة على أسئلة حساسة لا يريد أن يحمّل اعباءها لمن لا يتحملونها؟ لماذا بكى الغنوشي وهو يحاول إقناع رفاقه بصوابية الامضاء على وثيقة الحوار الوطني التي جاء بها العباسي؟ لماذا قال ذات لقاء مع رئيس الحكومة في القصبة (أظنه مهدي جمعة) لا بديل على الحوار الا الاقتتال، ونحن نرفض الاقتتال وليس أمامنا الا الحوار ؟ لماذا قال لوزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف عند التقائه به في مقر السفارة الايرانية :”إنهم يدفعون بالمنطقة نحو الاقتتال”؟
نشرتُ عدة مرات تدوينة هذه صياغتها:”الغنوشي وحده من يجلس خلف المقود ويقرأ لوحة القيادة وهو connecté مباشرة على الساتيليت”، كنت أقول لبعض قيادات النهضة انتم لا تصنعون سياسات الحركة، أنتم محللون سياسيون.
بهذه المقدمات نفهم لماذا “انسحب” مناضلون كبار من مثل الجبالي والجلاصي والمكي وديلو والشهودي وآخرون ، ليس لأنهم يختلفون مع الغنوشي في سياسات الحركة، فالاختلاف عادة يكون بعد نقاشات وحوارات ، ولكن لأنهم لا يجدون أنفسهم مطلعين على أهم ما يحويه “بنك معلومات الغنوشي” ولا يشاركونه قراءة “لوحة القيادة” ولا تتاح لهم فرص الارتباط ب”الساتيليت”.
محمد القوماني هو واحد من الذين تتدربوا قبل 2011 على تعاطي السياسة البراغماتية حيث المواءمة بين المبدئية والواقعية، وجد نفسه كما غيره في عاصفة الثورة ، لم يكن حزبه “تيار الاصلاح” قادرا على التنشئة في زمن التعبئة ولا على التعبئة في زمن “غنوشيٍّ” بامتياز، لقد كان الغنوشي عنوانا سياسيا وكانت حركته أعظم أسطول سياسي يشق عباب ثورة لا وجود لنص يعرِّف بها.
كان منتظرا أن “يفشل” حزب القوماني في وصول أيّ من مناضليه الى البرلمان، ولم يكن قادرا على مزيد التقدم في ساحة كانت وعرة لا تتقدم فيها الا البلدوزر (النهضة ، الاتحاد، النداء)، كان قرار حل حزبه قرارا واقعيا وشجاعا.
لماذا التحق القوماني بحركة النهضة؟ او لماذا دعاه الغنوشي ولماذا قبل الدعوة؟.
بحري العرفاوي (يتبع)
*منشور على صفحة الكاتب بالفايس بوك
Toutes les réactions :
14Vous et 13 autres personnes
مقالات ذات صلة
مراجعات تونسية في السياسة والديمقراطية
2023-06-25