حكومة حرب.. لحلّ المشاكل أم لإدارة الأزمة؟
جريدة الرأي العام، العدد 22، تونس في 14 سبتمبر 2017
اختار السيد يوسف الشاهد في جلسة منح الثقة أمام البرلمان يوم الإثنين 11 سبتمبر 2017، أن يلقي خطابا مطوّلا يلخّص البرنامج الاقتصادي والاجتماعي لحكومته في أفق 2020. فقدّم مؤشرات ايجابية للوضع الاقتصادي وأطلق وعودا جميلة للمستقبل، لكنّه قفز عن المشاكل الحارقة التي يعاني منها عموم التونسيين والملفّات السياسية الساخنة التي تتطلب وضوحا وجرأة في مطلع سنة سياسية جديدة، ممّا جعل التساؤل مشروعا حول طبيعة هذه الحكومة شكلا ومهاما والتي وصفها رئيسها بأنها “حكومة حرب” ؟ وهل ستكون حكومة لحلّ المشاكل أم لإدارة أزمة تستفحل؟
بدا خطاب رئيس الحكومة على أهميّة مضامينه، رتيبا ومكرّرا لجُمل سياسية يعود بعضها إلى ما قبل الثورة. أعاد تشخيص التحديات الاقتصادية والاجتماعية بعبارات تملأ لوائح مختلف الأحزاب السياسية والبرامج الانتخابية والخطب الرسمية “المنهجية”. فذكر أنّ البلاد تحتاج إل منوال اقتصادي جديد لدفع التنمية، وهي الجملة الممجوجة التي لم تكتسب مضمونا رغم جاذبيتها، بسبب غياب الإبداع وسيادة الإتّباع والحنين إلى تكرار حلول الماضي وشخوصه، والتي أيضا لم يعد لها من مكان بعد نحو سبع سنوات من الثورة وتكرارها في عشر حكومات متعاقبة ووضع مخطط جديد للتنمية قيل أنّه يكرّس ذلك المنوال الجديد. كما أكّد الشاهد على أهداف حكومته العاجلة وهي التحكّم في كتلة الأجور وخفضها، وتقليص عجز الميزان التجاري ونسبة المديونية، إضافة إلى دفع النمو الاقتصادي ورفع نسبته. وبيّن أنّ ذلك يتحقّق عبر خريطة طريق في إنجاز إصلاحات كبرى تشمل الجباية والصناديق الاجتماعية وإعادة هيكلة المؤسسات العمومية وتطوير حوكمتها وإصلاح الوظيفة العمومية وتعصير الإدارة وإصلاح المنظومة البنكية وإعادة النظر في منظومة الدعم وتوجيهه إلى مستحقيه ومراجعة التشريعات المتعلقة بالصرف واعتماد الشراكة بين القطاعين العام والخاص. وشدّد على أنّ تلك الإصلاحات التي لا غنى عنها تتطلّب تضحيات مشتركة من جميع الأطراف.
وهذه الأهداف والإصلاحات المطلوبة سبق للشاهد أن أعلنها تقريبا في خطاب نيل الثقة لحكومته الأولى منذ سنة مضت، وهي ليست مختلفة عمّا أعلنه سلفه من رؤساء الحكومات، لكن الإنجاز ظلّ مفقودا والمؤشرات ظلّت متراجعة. والمستفاد من التجربة أنّ المشكلة ليست في الخُطب وتحبير البرامج على الأوراق، بقدر ما تكمن في التصميم على الإنجاز وجرأة اتخاذ القرارات العملية وعدم القفز على الخلافات مع المنظمات الاجتماعية لاسترضائها وإنفاذ القانون على الجميع دون محاباة أو تمييز أو أيادي مرتعشة. فلم يعد خافيا أنّ أهمّ أسباب تعطّل الإصلاحات تعود إلى تجنّب الخلافات مع الاتحاد العام التونسي للشغل أساسا ومنظمة الأعراف والهياكل المهنية والقطاعية على غرار ما ظهر من تراجعات في مشروع ميزانية 2017 على سبيل الذكر لا الحصر.
أفصح الشاهد في خطابه شكلا ومضمونا أنّه يعمل تحت الضغط العالي، وربما لهذا السبب كان أقل تألقا ممّا ظهر به منذ سنة خلت، فلممارسة الحكم من مواقع أولى وقعها الذي لا يخفى. لكن الذي كان حاضرا أكثر في خطاب رئيس الحكومة، هو محاولة إقناع معارضيه ومنتقديه، بأنّه صاحب برنامج وليس تشكيلة وزارية فقط، ونسي أنّ هؤلاء سيظلّون على قولهم وانتقادهم ولو جاءهم بكتب في تفاصيل برنامجه. ولكنّ أهمّ ما نسيه الشاهد أنّه لم يكن يخاطب تحت قبة البرلمان النوّاب الذين قد حدّدوا مواقفهم مسبقا في التزكية من عدمها، بل كان يخاطب شعبا يبحث عن تطلّعاته من خلال متابعة الخطاب بمختلف وسائل الإعلام. فلم يحدّثه رئيس الحكومة للأسف، عن غلاء الأسعار وتدهور القدرة الشرائية، ولم يجبه عن مخاوفه من شبح إفلاس الدولة، ولم يتفاعل مع مؤشرات ارتفاع نسبة التشاؤم بين شبابه خاصة، ولم يأت على أوضاع الصحّة العمومية المتدهورة وحالة النقل المزرية وتراجع الخدمات في الكهرباء والماء والأوساخ التي تعكّر صفو الحياة، والفقر المتمدّد في المدن الكبرى والدواخل، وتكاليف العودة المدرسية والجامعية والبنية التحتية المتدنية والإصلاح التربوي والجامعي المعطّلين، ومعاناة الفلاحين ومصاعبهم المتزايدة، وغيرها من أوضاع التونسيات والتونسيين وأوجاعهم… وإضافة إلى ذلك تهرّب الشاهد من إبداء موقف واضح ودقيق في تثبيت موعد الانتخابات البلدية وتذليل الصعوبات لإنجازها في آجالها والتحذير من كلفة تأجيلها وتداعياتها السلبية ومعالجة مؤشرات العزوف عن المشاركة فيها. كما كان حديثه عن التوافق سطحيا ولم يطمئن التونسيين بخصوص المستقبل السياسي للبلاد في ظلّ عودة التجاذبات واشتغال البعض على الاستقطاب الأيديولوجي. وغابت في نبرته صرامة تطبيق القانون، والتصدّي لتعطيل الإنتاج أو العمل بما يقتضيه القانون، ومواصلة الحرب على الفساد في أجهزة الدولة خاصّة، ومطالبة البرلمان بالتسريع بالقوانين اللازمة لذلك، ودعوة الأحزاب والمنظمات المشاركة في وثيقة قرطاج والتي اجتمع بها واستمع إليها قبل التعديل إلى الالتزام بالتضامن مع الحكومة وتأييدها بالفعل لا بالقول.
لهذه الاعتبارات وغيرها مما يضيق به المقال، نقدّر أن خطاب رئيس الحكومة الأخير لم يجد الصدى الذي لقيه خطابه الأول في أوت 2016. كما أنّ تشكيلته التي اعتبرها بمثابة حكومة حرب على الإرهاب والفساد ومن أجل التنمية، تبدو غير مستوفية لشروط ذلك، من جهة عدد أعضائها المتضخّم والذي زاد في هذا التعديل، ومن جهة أنّ الوزراء سيكونون مثل الضبّاط الذين لا جنود لهم، ما لم تتمّ التعبئة الشعبية ولم تستنهض الروح المُواطنية في مواجهة التحدّيات وإنجاح الإصلاحات. ولهذه الاعتبارات أيضا تبدو حكومة الحرب أقرب إلى إدارة الأزمة أكثر من حلّ المشاكل. فالتعديل لم يطمئن بخصوص إنهاء ملامح الأزمة السياسية التي سبقت التعديل، ولم يُزل أسبابها بل أجّلها إلى حين. وربّما أحرج رئيس الحكومة نفسه حين استحضر نهج عمر بن الخطاب في الحكم، وما يستصحبه ذلك في الذاكرة الشعبية من خصال الشفافية ونظافة اليد والعدل بين الناس والصرامة في الحق والتواضع للخلق.
نأمل لحكومة الشاهد الثانية النجاح في تحقيق الوعود، وندعو لها بالتوفيق ونستنهض الهمم لدعمها ومؤازرتها ما ظلّت عند عهود رئيسها. ونظلّ يقظين في نقدها وتقويمها حتى لا ترتدّ الحرب لا قدّر الله داخلية، في احتدام الصراع على المواقع والاحتراب السياسي ومحاربة تداعيات الأزمة بدل أسبابها.
محمد القوماني