حكومة الجملي التي تشبهه..ما حظوظ نجاحها؟
كان إعلان الحبيب الجملي مساء الإثنين 23 ديسمبر 2019 اعتزامه “تشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة عن كلّ الأحزاب” محور اهتمام السياسيين والإعلاميين، رغم تسارع نسق الأحداث خلال هذا الأسبوع المنقضي في علاقة بتشكيل الحكومة، وتعدّد المبادرات والتصريحات على هذا الصعيد. فما هي خلفيات هذا الإعلان و سياقاته وتداعياته بداية؟ ثمّ أليست “حكومة الكفاءات المستقلة” الأقرب والأشبه لرئيسها الجملي في النهاية؟ وما هي حظوظ نجاح نيل حكومة الجملي لثقة مجلس نواب الشعب أولا؟ وحظوظ نجاحها في التصدي لمطالب المرحلة ثانيا؟
لم يخف رئيس الحكومة المكلّف خلال الندوة الصحفية التي عقدها بدار الضيافة بقرطاج مساء الإثنين الماضي، ما شعر به من ضيق وخيبة أمل بعد أسابيع من الحوارات الطويلة حول تشكيل الحكومة. وكانت النقطة التي أفاضت الكأس تفاجئ الجملي بتراجع الأحزاب الثلاثة التيار الديمقراطي وحركة الشعب وحركة تحيا تونس مساء الأحد عن مواقفها، وإعلان عدم المشاركة في الحكومة المقبلة بعد الموافقة على ذلك قبل يومين.
فقد قبل الجملي بالميثاق السياسي المقترح عليه، رغم بعض تحفظاته، كما وافق على منح 15 حقيبة للأحزاب في حكومة ترأسها شخصية مستقلة، ورأى في ذلك تنازلات كبيرة من “أجل لمّ الصف”. وقبلت الأحزاب المذكورة ما عُرض عليها، واتفقت إضافة إلى حركة النهضة على البرنامج الحكومي، وتواعد الجميع على إقرار الاتفاق وإنهاء المفاوضات حول الأسماء صباح الإثنين. تنفّس كثير من التونسيين الصعداء، وتفاءلوا خيرا، لا سيما المتحمّسون منهم لمثل هذا التحالف الحكومي، لما سمّي “خط الثورة”. لكن قرارات هياكل الأحزاب الثلاثة المنعقدة الأحد، قلبت الأمور رأسا على عقب.
وكان على الرئيس المكلّف أن يقيّم التجربة “بكل صعوباتها وتقلّباتها”. وقدّر أنّ تونس لم تعد تتحمل مزيد الانتظار فكان القرار. ويبدو أنّ اللقاء العاجل الذي جمع فيه رئيس الجمهورية قيس سعيد الأحزاب الأربعة، وحثهم فيه على التدارك والتقارب، جاء في الوقت الضائع. وقال رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي خلال اللقاء بوضوح أنّ “إلّي فات ما عادش يرجع”. ليُنهي المحاولة في مهدها. وكان الجملي بالتوازي مع لقاء الرئيس يعقد ندوة صحفية ويعلن قراره بالذهاب إلى حكومة كفاءات وطنية مستقلة.
وفي مناخ سلبي يتغذّى من أزمة الثقة المسجّلة بين مختلف الأطراف السياسية، تحدّث البعض عن مناورات متعدّدة لإرباك حركة النهضة وإظهارها في وضع “العاجز” أو “الفاشل”، وإضاعة الوقت عن رئيس الحكومة المكلّف وتفويت الآجال الدستورية عليه، للذهاب اضطرارا لما يسمّى “حكومة الرئيس”. ويقال في هذا السياق أنّ يوسف الشاهد وفريقه، هم أصحاب المصلحة في التعطيل، وهم وراء مبادرات تبدو أقرب إلى المناورات، سواء وعى أصحابها بالدور أو استُدرجوا إليه، بما في ذلك مساعي الإعلاميين جوهر بن مبارك والحبيب بوعجيلة، أو لقاء الرئيس قيس سعيد الأخير بالأحزاب الأربعة.
وفي المناخ السياسي السلبي أيضا، لم يتلقّ البعض بارتياح إعلان الجملي ، رغم ما قيل عنه من ذكاء في اختيار التوقيت المناسب لإفشال جميع المناورات. فحكومة المستقلين “المبهمة” التي تستبعد الأحزاب كلّيا، لا تستند إلى رصيد إيجابي في التجربة التونسية. فكثير من المستقلين في حكومتي الباجي رحمه الله والمهدي جمعة، أسّسوا أحزابا لاحقا أو انضموا إلى أحزاب. والحصائل كانت سلبية في الأغلب سياسيا واقتصاديا واجتماعيا خاصة. وقد دعا إلى نفس الخيار رئيس الحكومة الأسبق حمادي الجبالي وتمّ رفض مقترحه من حزبه النهضة أساسا، وأطراف عديدة أخرى.
والأهمّ ممّا سبق أنّ الجملي في ندوته الصحفية، حين تحدّث عن المقاييس التي سيعتمدها في اختيار وزرائه، وسّع في موضوع النزاهة واعتبر الحكم القضائي بالفساد هو المقياس الوحيد، وفي المقابل ضيّق في موضوع الاستقلالية حين اعتبر مجرّد الانخراط في حزب مانعا للوجود في حكومة الكفاءات الوطنية. فضلا عما في هذا الاختيار من استمرار في نهج تبخيس الأحزاب وإفراغ التنافس الانتخابي من مضامينه ودلالاته.
تبدو حكومة الجملي من الكفاءات أشبه ما تكون به. وهي إضافة سريالية أخرى في الديمقراطية التونسية. فقد فازت حركة النهضة بالمرتبة الأولى في تشريعية 2019 بما يمنحها دستوريا حقّ تعيين رئيس الحكومة وتشكيلها، وإن لم تكن أغلبية. وخلافا لكل التجارب الديمقراطية في العالم رفضت الأحزاب الممثلة في البرلمان، والتي يُفترض أن تشكّل معها النهضة الائتلاف الحاكم، أن يكون رئيس الحكومة المكلّف من قيادات النهضة. فكان الاضطرار إلى تعيين شخصية مستقلة وهو السيد الحبيب الجملي. ورغم كل الجدال حول “استقلاليته” فقد قبلت مختلف الأطراف التعامل معه على هذا الأساس. بل دعته بعض الأحزاب، على غرار قلب تونس، بوضوح ومنذ البداية، إلى تشكيل حكومة كفاءات غير متحزّبة.
وبعد تجربة حوار طويلة “بصعوباتها وتقلباتها” مع الأحزاب، يضطرّ الجملي في النهاية إلى إعلان قراره بتشكيل “حكومة كفاءات وطنية مستقلة عن كلّ الأحزاب”. وسيدور جدال حاد في البرلمان وخارجه حول “استقلالية الحكومة”. ولتنسيب هذا الجدال، قد يكون من المفيد، استحضار تصنيف بعض الوزراء في حكومة الشاهد من نداء تونس، بعد خلافه مع الرئيس الباجي ونجله. فكان من غير المتّفق عليه أن يُنسب أحدهم إلى أنصار حافظ أو أنصار يوسف.
والأرجح أنّ خيار حكومة الكفاءات يبدو أقرب إلى حكومة الأمر الواقع. فالأحزاب تربطها علاقات تناف واضحة. فعلى سبيل المثال ترفض حركة تحيا تونس الجلوس مع ائتلاف الكرامة. ويرفض هذا الأخير المشاركة أو التصويت لحكومة تضم تحيا تونس. ويعمل حزب قلب تونس على استبعاد حزب تحيا تونس ورئيسه الشاهد، ويبذل هؤلاء قصارى جهدهم في قطع الطريق عن قلب تونس ورئيسه. ولا يقبل التيار والشعب والنهضة التحالف مع “المشتبهين بالفساد” ولا تتوفق هذه الأحزاب إلى التحالف مع بعضها…ولذلك كان من المستحيل “لمّ الصف” كما أراد الجملي. وكان من الأفضل المراهنة على مستقلين يخضعون لرئيس الحكومة في ضمان الانسجام والاستقرار السياسي، بدل المخاطرة بائتلاف حزبي قابل للانفجار، لا يضمن الانسجام والتضامن الحكومي المطلوبين، ويضع رئيس الحكومة تحت التهديد المستمر بالانسحاب أو الابتزاز.
لا يبدو مستبعدا حصول حكومة الجملي التي تشبهه على التزكية بالبرلمان، ولو على طريق التحالف الموضوعي، دون قرار مسبق، كما حصل في مناسبات سابقة، في الفترة النيابية المنقضية. فقد صوّت المختلفون والمتنازعون لتزكية وزير الداخلية هشام الفوراتي على سبيل الذكر لا الحصر.
قد تصوّت لحكومة الجملي، كُتل النهضة وقلب تونس والإصلاح الوطني والمستقبل، وقد تحصد أصواتا ممّن يفضّلون “المعارضة”، وممّن لا رغبة لهم ولا مصلحة في إعادة الانتخابات. وفي كلّ الحالات سيتحقّق النصاب. ومهما كانت التشكيلة الحكومية ومهما كانت أطرافها، ستحظى بأغلبية غير مريحة، اعتبارا للتشظّي البرلماني المعلوم ولعلاقات التنافي والتجاذب بين الأحزاب التي عكستها التصويتات بمجلس نواب الشعب إلى الآن. والتي أفضت رغم ذلك، إلى أغلبية في اختيار رئيس المجلس ونائبيه، وفي المصادقة على الميزانية.
لذلك نرجّح أن تنجح حكومة الجملي التي تشبهه، في امتحان نيل ثقة البرلمان، ويبقى نجاحها في مواجهة تحديات المرحلة الصعبة، رهين برنامجها وأولوياتها خاصة، وتركيبتها من جهة الاستجابة لمقاييس الكفاءة والنزاهة والقدرة على التسيير والإنجاز التي أعلنها رئيس الحكومة المكلّف. وهذا موضوع للمتابعة.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 138، تونس في 26 ديسمبر 2019
سبق حمادي الجبالي
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25