حركة النهضة في ندوتها السنوية الثالثة: الحفاظ على المسار الديمقراطي وبناء منظومة الحكم الجديدة وتحدّيات ما بعد التّخصّص
يحتضن أحد نزل الضاحية الشمالية نهاية هذا الأسبوع اجتماع مجلس شورى حركة النهضة يوم الجمعة، وانعقاد الندوة السنوية الثالثة لإطاراتها يومي السبت والأحد. وبهذه المناسبة يشدّ الرحال إلى قمرت أكثر من ألف إطار نهضاوي من مختلف الولايات ومن الخارج، للتداول في قضايا وطنية على غاية من الأهمية، في مقدمتها حسم الخيار في الترشح للانتخبات الرئاسية وإطلاق التوجهات السياسية والبرامجية الكبرى للاستحقاق التشريعي. وستكون هذه الفعاليات محلّ متابعة إعلامية وسياسية تونسية وخارجية، اعتبارا لعلاقاتها بالرهانات الوطنية القريبة ولموقع النهضة كأحد الفاعلين السياسيين الرئيسيين في المشهد، وأيضا لحساسية الظرفية السياسية والزمنية التي تتنزل فيها.
فعملا بمقتضيات الفصل 36 من النظام الأساسي لحركة النهضة المصادق عليه في المؤتمر العاشر، تمّ إقرار ندوة سنوية بصفتها هيئة استشارية، تجمع القيادات التنفيذية والشورية، المركزية والجهوية والمحلية، وأعضاء الحكومة والبرلمان ورؤساء الكتل البلدية، في سياق تعزيز الديمقراطية الداخلية وتكريس المنهج التشاركي في أخذ القرارات وتقييم الأداء وتدقيق المسارات.
انعقدت الندوة السنوية الأولى يومي 23 و24 ديسمبر 2017 تعزيزا لخيار التوافق في الحكم وتثبيتا لمخرجات المؤتمر العاشر. وانعقدت الدورة الثانية يومي 20 و21 أكتوبر 2018 معزّزة بإطارات جديدة من الحكم المحلي بعد الانتخابات البلدية، وتناولت خاصة الأزمة السياسية بين رأسي السلطة اللتنفيذية في تلك الفترة ومقتضيات إنجاح الحكم المحلي وحسن إدارة البلديات إضافة إلى استحقاق إصلاح الحزب وتطويره. ويكتسي انعقاد هذه الدورة الثالثة يومي 22و23 جوان 2019 أهمية استثنائية، على الصعيدين الوطني والحزبي.
فهي تأتي عشيّة الانتخابات التّشريعية والرّئاسية نهاية العام 2019، وفي سياق وطني من أهمّ عناوينه الجدال حول التنقيحات التي اقترحتها الحكومة على القانون الانتخابي، وأقرّها مجلس نواب الشعب يوم الثلاثاء الماضي والتي تجعل الديمقراطية التونسية في اختبار عسير. فهي تنقيحات في نظر الأغلبية البرلمانية المؤيّدة لها، لحماية المسار الديمقرطي في مرحلة حاسمة من بلوغه حالة الاستقرار. فقد كشف المشهد السياسي خلال الفترة الأخيرة، مخاطر “شعبوية” متعدّدة العناوين، تتسلّل من الثغرات القانونية وتستثمر في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة للتونسين، لتتحيّل على الناخبين. فالبعض يستغلّ الامتيازات القانونية الممنوحة للجمعيات، في التمويل والإشهار السياسي والعمل الخيري وغيرها، ليفرض منافسة غير متكافئة مع الأحزاب، في مساحات حيوية يمنعها عنها القانون. والبعض الآخر يستفيد من مناخ الحريات للانقضاض عليها ويدعو صراحة إلى التمييز بين التونسيين وتباغضهم ويمجّد الاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان، ويبخّس الثورة ودستور الجمهورية. إضافة إلى ما يتمّ رصده من تدخلات خارجية وتمويلات مشبوهة المصدر وتآمر على التجربة الديمقراطية التونسية.
لكن تلك التعديلات التي يقرّ الجميع تقريبا بشرعيتها والحاجة إليها، يشكّك البعض في توقيتها وخلفياتها الانتخابية وآليات تنزيلها في الواقع، ويرون في بعض موادّها استهدافا لمنافسين مُحتملين، بسنّ قوانين على قياسهم لإقصائهم، كما يحصل في الأنظمة الاستبدادية. وهذا ما يثير شكوكا حول سلامة المسار الديمقراطي والتزام الشفافية والتمسك بالمبادئ، وقد يؤثّر سلبيا في توفير مناخ سياسي مطلوب لإجراء انتخابات يقبل الجميع بنتائجها وتفضي إلى حكم مستقرّ بعد 2019، ينهي الحالة الانتقالية التي لم تعد تقبل الإطالة أكثر وصارت عائقا أمام الإصلاحات الحيوية. ويذهب البعض إلى احتمال تسبّب التنازع حول هذه التعديلات والطعن في دستوريتها،في تأجيل موعد الانتخابات، بما في ذلك من كلفة باهظة على مستقبل المسار الديمقراطي.
ومن جهة ثانية يُنتظر أن يحسم مجلس الشورى في دورته العادية الثامنة والعشرين، قبل انطلاق الندوة الثالثة، خيار الحركة لرئاسية 2019 بالترشيح من داخلها، وهو الخيار الذي تكون فيه الأولوية لرئيس الحزب راشد الغنوشي، أو بدعم مرشح من خارج الحزب، وما يستدعيه ذلك من مواصفات وتحالفات. ويبدو أنّ خيار مرشح توافقي بين الأحزاب المؤهّلة للمراتب الأولى في البرلمان، والمرشحة لحكم ائتلافي، لا يزال مفضّلا لدى النهضة. فإنهاء مرحلة الانتقال بعد 2019، وإرساء قواعد حكم مستقرّ، يقتضيان رئيسا يخدم هذا الغرض، بما يعزّز موقعه ويعزّز التحالفات السياسية بعد الانتخابات، بين الأطراف الداعمة له. لكن يبدو أنّ المناخ السياسي السائد غير مساعد على التوافق، والوقت لم يعد يخدمه. وإذا بدا التوافق متعذّرا في سقف زمني محدّد، يكون خيار ترشيح حركة النهضة من داخلها مرجّحا. فهذا الخيار الأفضل لضمان وحدة قاعدتها الانتخابية، وحسن تعبئتها في التشريعية والرئاسية. وعندها سيكون الغنوشي أبرز المترشّحين، وتكون صناديق الاقتراع وحدها الحكم على نسبة شعبيته ومقبوليته.
كما تنعقد هذه الدورة الثالثة في سياق حزبي مخصوص، فهي الدورة الأخيرة، قبل الانتخابات والحكم الجديد وقبل المؤتمر الوطني القادم للحزب. إذ تقتضي المرحلة السّياسية الجديدة انتقال حزب النّهضة من مشاركة في الحكم قامت على توافق سياسي عام إلى مشاركة يجب أن تقوم على تعاقد وطني على أساس أولويات وبرامج. وهنا تعدّ القضايا الاقتصاديّة والاجتماعيّة ذات الاولويّة في الاعتبار والمقصد الأساسي للمشاركة. وهذا ما يستدعي توضيح رؤى الحزب وتأكيد مواقفه في تلك القضايا ومراعاة مصالح النّاس قبل مراعاة العلاقات بين الأحزاب، إذ لا يمكن للتوافق مستقبلا أن يكون على حساب نجاعة الحكم.
كما يُنتظر أن يقف إطارات الحزب على حصائلَ مخرجات المؤتمره العاشر، واستحقاقات المؤتمر الحادي عشر. فتحدّيات حزب النهضة ما بعد التّخصّص، تستدعي منه تسيّسات جديدة بعد المؤتمر القادم، من أجل ضمان استمرار ريادة الحزب، بتشبيبه ومواكبة اهتماماته للتغيرات الكبرى الحاصلة في تونس والعالم وتعزيز قاعدته الانتخابية وتنويعها.
وبناء على ما رشح من النّقاشات في النّدوات الإقليميّة التمهيدية، يبدو أنّ توصيات الندوة السّنوية الثّالثة تتركز حول محورين رئيسيين، يتعلّق الأول بموجّهات عامة في الحفاظ على المسار الديمقراطي وبناء منظومة الحكم الجديدة وأولوياتها ما بعد 2019. ويتعلّق الثاني بتحدّيات حزب النهضة ما بعد التّخصّص، وموجّهات عمله في أفق المؤتمر الحادي عشر سنة 2020.
وبسبب جدول أعمال الدورة 28 للشورى ومحاور اهتمام الندوة السنوية الثالثة والأخيرة، تشدّ الاهتمامات إلى قمرت نهاية هذا الأسبوع. فهل يكون إطارات النهضة، الخارجون لتوّهم من منافسات داخلية لم تخل من حدّة خلال الأسابيع الاخيرة بمناسبة الانتخابات الأولية لتشكيل قائماتهم التشريعية، في مستوى التطلعات الوطنية المنوطة بعهدتهم، التي تتطلّب وحدتهم، والمناسبة لحجم حركتهم التي تمضي خمسون سنة على نشأتها الأولى.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد112 ، تونس في 20 جوان 2019