تنافر الدولة والديمقراطية في البلاد العربية.. إلى متى؟
جريدة الرأي العام، العدد12، تونس في 22 جوان 2017.
كان فشلنا على مدى القرنين الماضيين في إنهاء الاستبداد رغم المحاولات العديدة والتضحيات الكبيرة، عنوان فشلنا في تحقيق النهضة والإصلاح. وعليه فإنّ الثورات العربية الأخيرة التي أطاحت بكثير من رؤوس الدكتاتورية وأدخلتنا مرحلة ما بعد الاستبداد، قد بشّرت بعصر عربي جديد. لكن هذا الجيل الذي نجح في الثورة على رموز الاستبداد وإبعادهم من رأس الدولة، وحقّق ما عجزت عنه أجيال سابقة، وكسّر قاعدة الاستثناء العربي، فشل إلى حدّ الآن في إسقاط النظام القديم وبناء ديمقراطية فعليّة. وذلك بتضافر عوامل داخلية في هدر الثورة، وكذلك بسبب عوامل موضوعية إقليمية ودولية في الغدر بالثورة والانقلاب عليها. وفي ظل انتكاسات حاصلة في تجارب وانسداد الأفق في أخرى ومصاعب جدّية في الحالات الأكثر تفاؤلا وتردّي الأوضاع العربية إلى مستويات غير مسبوقة، تعود بقوّة التساؤلات عن استمرار التنافر بين الدولة والديمقراطية في البلاد العربية وسبل معالجة هذه الإشكالية في مستوياتها المتعدّدة.
غيّرنا حكّامنا أكثر من مرّة خلال الحقبة الحديثة. استبدلنا “الملوك الخونة ” ب “الضباط الأحرار” أو ب”رؤساء جمهوريات” ناشئة، سواء تمّ ذلك عبر الانقلابات العسكرية أو الوفاة الطبيعية لبعض الحكّام، وهي آليات التداول لدينا التي سادت منذ الخمسينات إلى حدود الثمانينات من القرن الماضي، وكنّا نسميها “ثورات”، لكن في كل الأحوال تغير الحكّام ولم تتغير أوضاعنا نوعيّا كما تطلّعنا في كلّ مرّة. حكم الماركسيون والقوميون العرب والإسلاميون والليبراليون ومن لا يدخلون ضمن هذه التصنيفات، ولكن أساليب الحكم معهم لم تختلف كثيرا. حافظنا على الدولة لكن عجزنا عن تخليصها من الاستبداد.
مع الموجة الجديدة من التغييرات التي استهدفت نظم الاستبداد وبشّرت بالديمقراطية، صارت الدولة نفسها مستهدفة وكانت كلفة زرع الديمقراطية باهظة دون حصاد. انهارت الدولة في العراق بعد إسقاط نظام صدام حسين، فسادت “الفوضى غير الخلاّقة” وحكم الإرهاب وكان الضحايا بلا عدد وشمل التدمير كلّ شيء بما في ذلك الآثار ومكتسبات الحضارة. ولم تتأسس الديمقراطية بعد نحو 15 سنة. وتكرّر المشهد تقريبا في سوريا، في سياق مختلف وبعناوين مغايرة. ويدفع الشعب السوري فاتورة غالية جدا بعد أن تمّ تحريف مسار ثورته السلمية ضدّ الدكتاتورية. ويبدو الوضع مخيفا في ليبيا بعد تفكّك الدولة التي تعاني من ضعف بنيوي أصلا. ومن قبل انهارت الدولة كلّيا في الصومال وتدور رحى الحرب في اليمن المنهك. ويبعث مستقل مصر على بالغ الانشغال بسب مأزق الانقلاب. وحتّى في الحالة التونسية المرشحة للنجاح أكثر من غيرها، توجد حالة استعصاء غير خافية عن الحكم، ولم تنجح الحكومات المتعاقبة في استرداد ما تسميه “هيبة الدولة”. وتستشرف دراسات إستراتيجية لمراكز أبحاث ذات مصداقية، مستقبلا متشائما للمنطقة العربية عموما، التي يتزايد فيها الطلب الشعبي للحقوق والحريات وتعجز فيها الحكومات عن تلبية التطلعات.
في ظلّ هذا المشهد العربي الدرامي الذي تُقايض فيه الحرية بالأمن ويبدو فيه انهيار البلدان ثمن التخلص من الحكّام، تحضرني مقولات أسلافنا من المتكلّمين والفقهاء الذين أجمعوا تقريبا على القول بوجوب “الإمامة” أو “الخلافة”، في إحالة واضحة بتعبير عصرهم على حاجة المجتمع الضرورية إلى سلطة، أو ما نختزله في الحاجة إلى الدولة. بل أعترف أنّني كنت مستخفّا بأقوال بعض السلف حين كنت أهزأ في شبابي من قول بعضهم أنّ “سلطانا غشوما خير من فتنة تدوم”، في مفاضلة إكراه بين الدولة والديمقراطية بتعبيرنا اليوم. وكم تبدو الحصيلة مؤلمة حين نعرف أنّ تاريخ الدولة عندنا هو تاريخ الاستبداد. وأنّ الثقافة السلطانية في تراثنا قد روّجت لذلك قديما وتفعل فعلها اليوم في حنين البعض إلى وضع الاستبداد هروبا من مصاعب الانتقال الديمقراطي الشاقّة وكلفتها الباهظة . حالهم كالذي يهرب من الرمضاء إلى النار. فهل كُتب علينا في البلاد العربية هذا التنافر بين الدولة والديمقراطية؟
مع الأسف، مازالت خطواتنا متعثّرة على طريق النهضة بعد ما يزيد عن القرنين، و يستمرّ التنافر بين الدولة والديمقراطية. لقد جرّبنا التغيير بالبداية من الأعلى واستهداف رأس السلطة والتعويل على قوّة الدولة أكثر من الاهتمام بتطوير المجتمع، وكانت النتائج مخيّبة للآمال على مدى عقود، وقد صار الخطر قائما أكثر من أيّ وقت مضى، على الدولة نفسها التي نستظل بها. فهل نعي الدرس ونعدّل البوصلة ونجرّب مداخل ثبت نجاحها في ربوع أخرى؟ وهل حان الوقت لمراجعة عميقة لمناهج التغيير التي دأبنا عليها وروّجنا طويلا لها، وللفكر السياسي الذي قادنا في السابق؟
فالدرس الواضح الذي نهرب منه هو أنّنا لن ننجح في التغيير الديمقراطي ولن تتكرّس حقوق الإنسان في ربوعنا دون النجاح في ترسيخ ثقافة المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان وتأسيس الآليات الضامنة لها في الواقع. ولن نُؤمّن التغيير بالتعويل على شعارات دعاة التغيير ولا على وعودهم ولا حتى على نواياهم الصادقة. إذ الضامن الوحيد والمُؤمّن للتغيير المنشود هو الشعب المُسلّح بثقافة التغيير والساهر على تطبيقها، ومؤسسات الدولة التي ترعى ذلك. وصدق من قال قديما: “كيفما تكونوا يُولّ عليكم”.
ولن يتحقق ذلك بمجرّد جدال نظري حول مفاهيم المواطنة والديمقراطية والدولة ونحوها، بل بديناميكية سياسية تعمل بجاذبية الديمقراطية، باتجاه تطوير الثقافة المدنيّة ومنظومة المشاركة السياسية، وذلك بمساهمة نشطة لمؤسسات التنشئة الاجتماعية المختلفة وفي مقدمتها الأسرة والمدرسة والإعلام . كما يتوقف ذلك على دفع قويّ للتنمية السياسية وإعادة تأهيل الفاعلين السياسيين في الحكم وفي المعارضة. فلا تتحدّد المواطنة والديمقراطية من خلال علاقة الفرد بالدولة طلبا للحقوق فقط، بل أيضا من خلال حياة جماعية قائمة على روابط ثقافية وتشريعية وسياسية تقوم على تلازم الحق والواجب، ويقترن فيها الوعي الفردي بالانتماء التعاقدي للدولة بتطوّر المجتمع نحو مزيد من الحرية والمساواة والكرامة. ولن تتآلف الدولة والديمقراطية إلاّ بتوفير شروط ذلك من الثورة الثقافية وتحقيق النماء والرفاه لعموم المواطنين، وبناء قوّة مسلّحة تضمن الأمن بالداخل وتحمي الحدود وتلجم أطماع الخارج وتعطي معنى لهيبة الدولة.
محمد القوماني