تقديم كتاب: ما بعد العلمنة والأسلمة، مقاربات في الثورة والإسلام والحداثة

 

د. محرز الدريسي

مقدّمة:
يتضمن الكتاب مقدمة وتوطئة وتسعة فصول متمايزة من حيث القضايا المطروحة، إلا أن ما يجمعها هو الحس التقييمي الذي يبثه الكاتب طوال الفصول المختلفة. يقدم مسائل حضارية وفكرية لازالت عالقة ولم تجد إجابات جديدة في السياق الثقافي والسياسي الذي تمر به المنطقة العربية وتونس تحديدا. يدل اختيار العنوان حرص الكاتب على تجاوز ثنائية الاستقطاب الحاد الذي هيمن على الساحة التونسية بين دعاة الأسلمة ودعاة العلمنة، أو على الأقل رسم مقدمات لذلك، باستحضار أدوات المراجعة والنقد في فضاء الإسلاميين. وتبدو خصوبة الكتاب في منسوب الأسئلة التي يطرحها وطبيعتها، وثقافة النقد المنتشرة في مضمونه، بتفعيل مفاهيم الوعي التاريخي ومركزية العقل ومطالب التنوير والإصلاح الديني مساهمة في تهوئة الفضاء الإسلامي العام الذي انغمس في السياسي اليومي.
تقييم المسار الثوري: الفرص المهدورة والمواطنة المتعثرة
خُصص الفصل الأول إلى تقييم المسار الانتقالي، حيث وفرت شرارة الثورة التونسية ارهاصات انبلاج عصر سياسي ترسم فيه علاقة جديدة بين الشعب والدولة وبين الحاكم والمحكوم، وتطبق فيه الديمقراطية وتعاش المواطنة. هذا الحراك السياسي والمجتمعي لم يأت من فراغ، فقد اسس له رواد النهضة العربية بجعل الديمقراطية في قلب اهتماماتهم النظرية، فالديمقراطية لدى رفاعة الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وفرح انطون وشبلي الشميل لم تنفصل عن مقارعة الاستبداد. فقد فكروا في قضايا الحرية والعدالة والفصل بين السلطات، وتعاطوا مع الديمقراطية ضمن أفق توفيقي بين الهوية والحداثة وتفاعلوا مع الثقافة الغربية ودعوا إلى الاقتباس منها دون حرج. هذا السبق تم التراجع عنه، حيث وُظفت أجهزة الدولة في استبعاد الدين من الحياة العامة، وحوصر التدين ونفخ في التيار العلماني واحتكر الفضاء الديني، في مقابل ذلك نشأت حركات وخطابات تروج لفكرة ” الاسلام شامل للحياة” و”الإسلام هو الحل”، وانتشر شعار “الاسلام دين ودولة وعقيدة وشريعة ومصحف وسيف”. اعتبر الكاتب أن الاسلام السياسي تمدد كردّة فعل ضد إقصاء الدين وتهميش دوره في المجتمع، ونمى في سياق عداوة مع الانظمة الحاكمة من خلال الشعار المعروف “الحاكمية لله”. تغذى صراع العلمنة والأسلمة من رفض مقاربات فكرية وسياسية عملت على علمنة الدولة والمجتمع مثل كتابات طه حسين وكتاب على عبد الرازق، أفرزت انقساما في الوعي وانشطارا في الإدراك، ويفسر غياب المنحى التوفيقي الصراعات المحتدمة في الفكر العربي التي تحولت الى “سجالات ايديولوجية والى اتهامات متبادلة في التخوين والتكفير والعنف” (ص 35) . يحدد الكاتب هزيمة 1967 كإحداثية تاريخية انبثقت عنها المراجعات والاتجاهات النقدية، وتبلورت في سياقها مشاريع فكرية عربية في قراءة التراث وفي الانبعاث الحضاري وفي التجديد مثل طيب تزييني، وياسين الحافظ، ساهمت هذه المشاريع النقدية في تقليص حالة التشنج في مقاربة مسائل الاسلام ومعالجة قضايا التراث وتحليل الخطاب النهضوي، دون أن يكون لها اثر في تحرير الشعوب من براثن الاستبداد. لم تؤت أفكار التقدم والتحرر والنقد أكلها الا مع “الثورة التونسية” التي يصفها “بالزلزال”، مؤكدا أنها “لم تأت صدفة ولم تصنعها أياد خارجية” (ص37)، بل يعدها تتويجا لنضالات مريرة تكثفت خلال العقود الاخيرة، وأن الحراك الثوري له قيادة ومحتوى سياسيا. يتوقف الكاتب عند توصيف ابرز الاحداث التي واكبت المسار الثوري، ليهتم بعد ذلك بالتطورات السياسية ما بعد الانتخابات، مبينا أن انتصار حزب حركة النهضة في تونس انتصار واضح لتيار الهوية العربية الاسلامية في مواجهة نزعات التغريب والعلمنة القسرية واضطهاد “المتدينين”، وأتاحت الانتخابات الفرصة لتجربة الاسلام السياسي. وفي سياق تقييم المرحلة الانتقالية ابرز الكاتب أنه تم تغيير الحكام دون أن تتغير بنية الحكم، مما احدث “خيبة امل” وعودة أساليب الحكم السابق وثقافة تمجيد الزعيم وارتفاع منسوب الفساد، وتجذر ثقافة الخضوع. وان المواطنة ماتزال متعثرة لتنامي نزعة الهيمنة والانفراد وسوء استخدام التفويض الشعبي، وعدم الوفاء بالوعود المعلنة، نخرت مصداقية الحكم، ذلك أن التغيير الحقيقي ليس تبديل الحكام وشعاراتهم، بل الاهتمام ببناء المواطنة، يلخصها في عبارة مكثفة “الشعب المسلح بثقافة التغيير”(ص47).
عاشت تونس على وقع استقطاب ايديولوجي وسياسي، بصراعاته، ومعاركه، مجسمة علامات أزمة سياسية. استنتج الكتاب من ذلك أن استقطاب المشهد السياسي – في مرحلة الانتقال الديمقراطي- بين حكومة ومعارضة غير صحي في سياق تأسيسي، كانت اللحظة الجديدة تستوجب شراكة لا تطمس التعددية وحق الاختلاف، مع التوافق على ملامح مشروع وطني يعبئ الشعب حول ثقافة جديدة “تعمل بجاذبية الديمقراطية وبناء وفاقات صلبة”. وأكد أنه لئن انهزم الحداثيون في منافسة الإسلاميين في الانتخابات، فإن قيم الحداثة انتصرت، مما يستوجب الاشتغال على تجديد الفكر والوعي والممارسة عبر تحديث المجتمع والدولة، وتجاوز هوة الاستقطاب وبلورة معجم ما بعد العلمنة والأسلمة، يكون فيه الإسلام الثقافي اطارا للأمة، وايلاء الفكر والثقافة أولوية، وحث المثقف على لعب دور محوري في دعم التحولات وإنجاز التغييرات العميقة، لأن “صمود المقاتلين في الثغور من صمود المثقفين في المواقف” (ص61). وأنه لا مفر من مصالحة تاريخية عبر تفعيل قيم المواطنة، واستيعابها فكريا ووجدانيا، والتخلي عن صيغ الإحالات إلى الماضي.
قراءة في ثلاثية القرآن والتوحيد والعبادة :
يتضمن القسم الثاني الفصول (الثاني والثالث والرابع) حيث يشير الباحث أن الثورة الثقافية لا يمكن أن تتحقق إلا في اطار ثقافة الأمة التي محورها القرآن الكريم بما هو نواة إنتاج الفكر والقيم المتفاعلة مع الواقع. لهذا يشتغل ضمن البحث عن أثر القرآن الكريم في تصورات المسلمين وسلوكهم، وفي منزلة الانسان، ويهتم بوظيفة الدين وأدواره أكثر من حقيقته.. يراوح القوماني في مقاربته بين الاحالة إلى تيار الاعتزال الذي يتبنى العقل لطفا من الله ورحمة منه تعالى، والاستفادة من مرجعيات الفلسفة الغربية ممثلة في الفيلسوف الألماني “ليسنغ”[1] في فهم البنية الدلالية لمفهوم الوحي والاجتهاد، والتدرج، والوعد والوعيد، والمعاني الحسية، وعدم الاعتماد على التفسير الحرفي، لتفادي الوقوع في التشبيه والتجسيم. يتوجه الوحي الى عموم الناس، لذا تقترب صياغته من فهمهم، ولم يمنع ذلك بعض الأفراد “المتميزين” من فهمه وتفسيره حسب منهجيات مختلفة، تفسر بعض العقائد او بعض القصص والامثال “برمزية يرتؤونها” (ص76)، مستثمرا مواقف الفيلسوف الهولندي “سبينوزا”، الذي يحلل النصوص المقدسة بوجهة عقلانية وأن بعض الاحداث والأوصاف التي يرويها الوحي قد لا تكون فعلية، إنما هي مجرد اُسلوب للتأثير على العامة وتحريضهم على الطاعة، مبينا ان النبوة لا تجعل الانبياء فوق الواقع وفوق المجتمع مضفيا مسحة انسانية على مفهوم النبوة.
يعد القران اطارا نظريا عاما للعقل ، ويهدف التنوير إلى ازالة التعارض بين الفكر الاسلامي والفكر الوضعي، فالتدين ليست له صياغة واحدة، ولا صورة نمطية ثابتة. ويعمق القوماني فكرته بالاستناد إلى “لاهوت التحرر” في أمريكا اللاتينية، وأدبيات الأب كاميليو توريس، التي ربطت بين فكرة الثورة والعقل، وبين التدين والتغيير الاجتماعي، وبين التدين ومقاومة الاستغلال أو المضمون الاجتماعي للدين. تعرض هذه الأفكار الخام كحامل لتجاوز التردد والتلفيق في عملية التجديد، وهي مقدمات ضرورية لنقد الإقرار بأهمية العقل دون امتلاك الجرأة المنهجية في استخدامه، والبقاء في سجن النصوص والاجتهاد في حدود ما هو مرسوم. تكتمل النظرة التجديدية للقرآن الكريم مع تمعين عقيدة التوحيد وشحنها بدلالات متجددة، تتجاوز فيها نقاشات التجسيم والتثليث والتنزيه كموضوعات تقليدية في علم أصول الدين بتحديثها انطلاقا من القرآن الكريم، على غرار سائر المسائل التي يتناولها فكرة حسن حنفي[2] في مبحث التراث والتجديد. وأن المطلوب ليس احياء القديم وتغيير جلد العلوم القديمة، وانما تطوير افكار جديدة وصياغة قيم حديثة، واستعادة القضايا التراثية وفق نظرة معاصرة تربط مكونات العقيدة بقضايا العصر وتحدياته، خصوصا أن الدراسات الاسلامية الحديثة اهتمت بمسائل التشريع واحكام الفقه، بينما تتمثل الرهانات الحقيقية في تجديد أصول الدين قبل تجديد التشريع، لهذا لم يُطور الفقه التشريعي لارتكازه على آليات قديمة، تستوجب اعادة النظر في فهم العقيدة، وتبويبها وتصنيفها وتحويل العقيدة الى تمثلات محركة ومحفزة للسلوك والاتجاهات كما بينته الأبحاث الأخيرة في علم النفس الاجتماعي، و اذا كان التوحيد أساس العقيدة الاسلامية، فان العبادة هي صورة الاسلام والتجسيم العملي لمعاني التوحيد، يعرفها بأنها “رياضة روحية”، مثلما نص متصوفة الاسلام بعدم التوقف عند الرسوم وعدم الاقتصار على الشكلانيات ووجوب النفاذ الى المعاني العميقة والمقاصد التربوية للعبادة وآثرها الروحي والمعنوي. تتجاوز العبادة البعد الشعائري بجميع تفاصيله، وتشمل كل جوانب الحياة.
المساواة الاجتماعية والديمقراطية السياسية :
يتسم الفكر الاسلامي قديما وحديثا بالاضطراب، ظهر ذلك جليا خلال جدل المناصفة والمساواة والتكامل – في فترة صياغة الدستور التونسي –ما بعد الثورة- فالفكر الاسلامي لازالت تكمن فيه نزعات الفهم الخاطئة حول التمييز والقوامة، رغم ان الاسلام بتعاليمه السمحة وتشريعاته دعم لقيم للمساواة. ولتجذير هذه القيمة استند الكاتب إلى نموذج الطاهر الحداد ونفض عنه النظرة الاقصائية في الوسط الاسلامي وثمن عمله واجتهاداته، خاصة في ابرازه ان مقاصد الشريعة الاسلامية تؤكد مساواة الرجل والمرأة في مختلف وجوه الحياة. ورسم الحداد قاعدة هامة تميز بين المقاصد الثابتة للإسلام والأحكام العارضة، تعد بمثابة دعوة رائدة من اجل تطوير التشريعات التي أدمجها في كتابه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع”. ويرى الكاتب في الطاهر الحداد صاحب قراءة جديدة للإسلام وللتشريع الاسلامي تؤكد الفهم المقاصدي لنصوص الأحكام، وربط الأحكام بظروفها، وتطويرها في ضوء مقاصد الشريعة. وينقد الكاتب مقاربتين متناقضتين، الأولى تنتصر لقيم الحداثة وترى ان الاسلام يصدر عن رؤية تقليدية تعبر عن نظرة دونية الى المرأة، أما المقاربة الثانية فهي تفتخر بان الاسلام كرم المرأة ورفع من شانها، وتبرر التشريعات “المتعارف عليها” بفوارق طبيعية، وسنة الله تعالى في الخلق، ولا ترى وجوب تطوير التشريعات المتضمنة في النصوص. من بين القضايا التي تمت مراجعتها في الكتاب ايضا الإمامة والخلافة، كأول المسائل الخلافية بين المسلمين، وتمحور السؤال حول هل تتم الامامة بالنص ام بالاختيار ، وماهي شروط عقدها. عرض الكاتب تعريفات الإمامة عند “الأيكي” و”ابن خلدون” و”الماوردي”، و”الأصم” و”القوطي”، اعتبر هذه الادبيات مجرد تبرير لوقائع تاريخية وأحداث سياسية وليست تنظيرا سياسيا. وبالرغم مما تضمنه التراث الاسلامي من مبادئ العدل والحرية وما احتواه من اقرار بحق الجماعة والبيعة والاختيار والشورى، لم تتبلور فيه نظرية سياسية متكاملة، ولم تمنع بروز نظم استبدادية طول التاريخ الاسلامي. ومع ذلك يعتقد الكاتب أن ماهية الدولة في الإسلام ليست ثيوقراطية، بل جوهرها مدني، وأن نظام الحكم الصالح الذي يناسب الواقع المعاصر من زاوية اسلامية هو “الحكم الديمقراطي”، بما هو بناء المواطنة والفصل بين السلطات والتداول السلمي على الحكم واحترام الحريات الفردية والعامة. ولتأصيل موقفه تناول الكاتب النشأة السياسية للمعتزلة في فترة بني أمية، التي حولت الحكم من خلافة شورية الى ملك عضوض، وروجوا للفكر الجبري للتفصي من مسؤولية المظالم وتبرير حكمهم. في حين تشكل تيار العدل والتوحيد حول القول بحرية الانسان وقدرته، وقاموا بواجبهم الاخلاقي والعملي في مواجهة الأوضاع الفاسدة، جعلت منهم حركة كلامية سياسية معارضة. واهتم بتحليل الأصول الخمسة للمعتزلة( التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الامر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وهي صياغات فكرية لموقفهم من الصراعات السياسية في عصرهم، ذات امتداد وجداني في الواقع الحالي، يمكن قراءة الحاضر في الماضي منها.
حركة النهضة بين التطور السياسي والتردد الفكري :
صنف المؤلف حزب حركة النهضة ضمن اكبر الفاعلين في النضال من اجل ديمقراطية الحكم، رغم ان بيانها التأسيسي لسنة 1981، لم ترد فيه اي إشارة للديمقراطية أو ذكر لمكونات الحداثة السياسية في التعاقد والسيادة الشعبية والمواطنة والمساواة وحقوق الانسان. ومع ذلك اتسم الاتجاه الاسلامي بالتحرر الفكري نظرا لتعدد الاتجاهات وتنوع الخطابات في وسط طلاب الجامعات، وانفتاحهم على مرجعيات كثيرة، وروافد مختلفة، والتفاعل مع الحركة اليسارية بكل مكوناتها. تدعم ذلك بتنوع ملامح الرموز المؤسِسة واختلاف تكوينهم مع غياب المشائخ مثلت مؤثرات ايجابية، لذا لم يتأثر بكتابات الاخوان وينبهر بها إلا الجيل القيادي الاول. مثل نقد الفكر الاخواني من بين أولى المسائل الخلافية، التي افضت إلى التصدع الاول ونشأة تيار الاسلاميين التقدميين الذي كان له أثر عميق في الجماعة-الأم. وتكثف الخطاب النقدي حول النزعة الأخلاقوية واختزال اهتماماتهم في العقائد والسلوكات الفردية وعدم الاهتمام بالأبعاد الاجتماعية، وعدم التمييز بين الاسلام والتراث الاسلامي، وموقفهم السلبي من المرأة والفن وموضوعات الديمقراطية، بالإحالة إلى نصوص مجلة المعرفة[3] في نص رمزي وتاريخي “دعوه يئن” و”حوار في الصميم”.
مع هذه الاحراجات/ المعضلات النظرية التي طالت حركة النهضة، حرصت القيادة على صياغة مرجعية فكرية لحركة الاتجاه الإسلامي سنة 1986 بعنوان ” الرؤية الفكرية والمنهج الاصولي لحركة الاتجاه الاسلامي بتونس”، لضبط التنظيم من كل “انفلات نظري” ووضع أساس جامع للانتماء. تم التمسك بالوثيقة في جل المؤتمرات إلى حدود المؤتمر العلني التاسع سنة 2012 بعد الاعتراف القانوني بالحركة، لم يصرح تبنيها او رفضها. أكدت النهضة بعد الإطاحة ببن علي، التزامها بمقومات الدولة المدنية الديمقراطية التي لا سند لشرعيتها الا بالقبول الشعبي، وتبنيها لخطاب سياسي حداثي، مما أحدث مفارقة كبرى في صلب حزب حركة النهضة بين انخراطها في صياغة الدستور وتخليها عن مطلب الشريعة، وعدم مراجعتها “الرؤية الفكرية”. تقوم “الوثيقة” على منهج تقليدي في فهم الوحي بُني على خمسة أسس، تتضمن الأساس اللغوي، الأساس المقاصدي، الأساس الظرفي، الأساس التكاملي والأساس العقلي. تناولت الوثيقة علم أصول الدين في صيغته التقليدية، وشملت تحديدات نصية وضوابط لا صلة لها بتطور المجتمع وتعقد حياة الناس، بهذه الالية في الفهم “يظل الشرع هو المحدد للأفهام والاحتمالات وليس الواقع” (ص203)، هذه القراءة اعتبرها الكاتب تجسد طغيان النص ومحاصرة العقل وضمور الواقع. ناقش المؤلف أسسها، مشيرا ان القران الكريم غير بعض احكامه خلال ثلاث وعشرين سنة من نزوله، ونسخت آياته بعضها تفاعلا مع تطور المجتمع وتجربة الجماعة المؤمنة آنذاك، وأن ما يقع فيه الفهم التقليدي من جمود نتاج النظرة اللاتاريخية للإنسان والوحي وحاجيات المجتمع. كما غيرت الأبنية المعرفية والمناهج الانسانية من نظرتنا للكون وللإنسان، تستدعي تجاوز إدراك الوحي وفهمه ضمن أسباب النزول فقط، وتنزيل النص في اطار الواقع المتحرك، حتى لا يفهم الاسلام خارج السياق المعاصر وتحدياته “بشريعة موروثة جامدة او بأفهام غير قابلة للمراجعة” (ص205). يعتقد الكاتب أن تطبيق الوحي لا يمكن ان يكون آليا دون الوعي بالمقاصد، مستندا إلى اعمال الفيلسوف ميشال فوكو حول مفهوم العقاب وتطوراته عبر التاريخ، مدخلا للتساؤل عن كيفية تطبيق بعض الاحكام في الواقع المعاصر مثل كفارة تحرير رقبة، تأديب المرأة بالضرب، نصف شهادة الرجل، ومسائل الخاصة بالردة وعلاقتها بحرية المعتقد والمواطنة. تتسم اجتهادات حركة النهضة بالتردد وعدم الانفتاح على قراءات جديدة، وأن “الرؤية الفكرية” تحتاج الى مراجعات كبيرة لتتلاءم مع الخيارات الفكرية لحزب سياسي عصري، قادر على رفع تحديات الديمقراطية والتنمية، وهذا يتطلب الانتقال من معارك الدفاع عن الاسلام الى معارك ضمان حقوق الانسان وبناء الديمقراطية، والتحول من “بناء الحصون إلى إقامة الجسور”.
خاتمة
الكتاب “سياسي” لا يبحث عن إنتاج أفكار ذات طابع نسقي، وإنما يبحث عن “التنظير” بما هو بحث عن الحلول لمشكلات واقعية وتحديات معرفية وفكرية، ويفتح ورشات تتقاطع فيها الأسئلة وتجتمع فيها المراجعات، وتعرض مقدمات نقدية ذات جدوى في إعادة ترتيب “البيت الإسلامي” في مكوناته المعرفية والمفاهيمية والمنهجية. ومع المراجعات العميقة التي تمت في المؤتمر العاشر لحزب حركة النهضة والاعلان عن التمييز بين ما هو دعوي وسياسي، يمكننا القول أنها فكرة تأسيسية هامة في الفضاء الفكري والحركي الاسلامي، تحتاج الى الاثراء والتنضيج من خلال إنتاج أدبيات تبنى خيارات نظرية فاعلة في الواقع وناجزة في الميدان.

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: