تعزّز ثورة الصندوق.. وتعمّق مأزق “الحدثوت”

حاز المترشّح قيس سعيد على نحو ثلثي أصوات الناخبين في الدور الثاني لرئاسية 2019 بنسبة مشاركة لافتة مقارنة بالدور الأول والانتخابات التشريعية قبل أسبوع. وقد مكّن هذا التصويت الرئيس الجديد لتونس من شرعية شعبية غير مسبوقة، عزّزت ثورة الصندوق على النمط التي أفصحت عنها نتائج الدور الأول. فنسبة المشاركة العالية، والحضور الشبابي المميّز فيها، والفرق الكبير بين المتنافسين، كانت عناوين واضحة وبليغة في التعبير عن التغير العميق في المشهد السياسي التونسي. وكانت حركة النهضة قد حلّت في المرتبة الأولى لتشريعية 06 أكتوبر 2019، في انتخابات أجمع المتابعون على التقدّم فيها للتيار المنتصر للثورة على حساب تيار الثورة المضادة والحنين إلى المنظومة القديمة. ويبدو الخاسر الأكبر في انتخابات 2019 تيار “الحدثوت” بمختلف عناوينه، الذي انتهت به رحلة التيه إلى مأزق تاريخي يصعب عليه الخروج منه، دون مراجعات عميقة ومؤلمة تأخّرت كثيرا عن موعدها. ولن تحجب مكابرة بعض المتحدّثين من هذا التيار في تعليقهم على نتائج الانتخابات واستمرارهم في غيّهم، حدّة المأزق وعمق الأزمة والتكلفة الباهظة للأخطاء المتكرّرة.
أستعير مصطلح “الحدثوت” من الفضاء الأزرق، للدلالة ولغرض هذا المقال، على تيار فكري وسياسي في النخب التونسية، يستعمل عنوان الحداثة شعارا أيديولوجيا في مناكفة تيار آخر يوصف بالإسلاميين. فالحدثوت قد يكون في الحكم أو في المعارضة، في اليمين أو في اليسار، ليبراليا أو اشتراكيا، حقوقيا أو سياسيا، ناشطا مدنيا أو إعلاميا، متحزبا أو غير متحزب، أو غير ذلك من التصنيفات الجزئية. ما يجمع الحدثوت هو التشديد على الدفاع عن الحداثة، واحتكار التحدّث باسمها، واستعمالها عنوانا أيديولوجيا في مواجهة تيار الإسلاميين، مهما اختلفت عناوينه، بتعمّد التلبيس عليهم ونفي الفوارق بين مدارسم وتنظيماتهم، والسعي إلى إقصائهم من المشهد، إلى حدّ ازدرائهم أحيانا. فلا يهمّ الحدثوت على سبيل الذكر لا الحصر، التنكّر لقيم الحداثة في رفض منح الحرية لمخالفيهم من الإسلاميين، أو اعتماد ازدواجية الخطاب والمكيالين في رصد انتهاكات حقوق الإنسان إذا تعلق الانتهاك بهم، أو تبرير الانقلاب عليهم في الحكم والانحياز إلى جلاديهم، أو التضييق عليهم في حرية ممارسة شعائرهم الدينية مقابل المبالغة في إثارة حقوق الأقليات، إلى غير ذلك من الخطابات والممارسات التي أفقدت رموز تيار الحدثوت كل مصداقية فيما يدّعونه من تمثّل لقيم الحداثة.
يحرص تيار الحدثوت في تونس على جعل حركة النهضة محور استهدافه الفكري والسياسي والإعلامي، فتراهم ينسبون لها كل مايشينها، مما لا علاقة لها به من فكر أو ممارسة، داخل تونس أو خارجها. فكلمة النهضة هي الأكثر تردّدا في المنابر السياسية والإعلامية، وهي الغائب الحاضر في أحادين السرّ والعلن، وهي المتهمة دوما والمسؤولة عن كل ما يثير السخط أو النقد أو تشكي بعض الناس، حتى تكاد تتّهم النهضة بالملح الزائد في الطعام والآثار الجانية السلبية لبعض العوامل الطبيعية من مطر وثلوج ورياح. وقد صارت الافتراءات على النهضة في بعض منابر الإعلام موضوع تندّر، مثل حفر أنفاق بين غزة والشعانبي بالاستعانة بحركة حماس، أو حيازة بعض قيادات النهضة على ممتلكات خيالية على نحو يخت سمير ديلو، ومزارع حمادي الجبالي وبناياته ومصانعه، والأطنان من الجواهر التي استولى عليها علي العريض. وصار الحديث عن “الجهاز السري” المزعوم لحركة النهضة، كلمة السر في خطاب الحدثوت خلال الفترة الأخيرة.
لم ينجح الحدثوت في إقصاء حركة النهضة من المشهد السياسي، وإن نال من صورتها، وأجبرها على إنفاق جزء من مجهودها، في ملاحقة الافتراءات والردّ عليها، وإرباك أولوياتها أحيانا. ولم يفرح الحدثوت كما حلم بهزم النهضة انتخابيا، ففازت ببلديات 2018 وتشريعية 2019 رغم حجم الاستهداف المهول، فراح ينغّص عليها فرحتها بالانتصار، بقراءات غير موضوعية في النتائج. بل الأدهى من ذلك أنّ الحدثوت ساهم في تقوية “يمين النهضة” وصعوده، لتعود معه خطابات الاستقطاب حول قضايا الهوية، بإثارة مواضيع المساواة في الإرث والمثلية وحقوق الأقليات وغيرها من مسائل حقوق الإنسان، في غير سياقاتها ومن مداخل خاطئة وبأدوات غير موفّقة. وبذلك يكون الحدثوت قد خسر الرهانات على جميع الأصعدة. فقد ظلت حركة النهضة الأولى في المشهد السياسي وفصائله في المراتب الأخيرة أو تمّ شطبها أصلا من البرلمان أو تكاد. وصعدت شخصيات وقوى جديدة لا يرتاح لها الحدثوت، وفي مقدمتها الأستاذ قيس سعيد في قرطاج وشخصيات أخرى في البرلمان الجديد بباردو.
لم تعترف إلى حدّ الآن بعض المنصّات الإعلامية بهزيمتها النكراء، حين خسر مرشحوها في رئاسية وتشريعية 2019، ولا تزال تحتفظ ببعض معلّقيها ومنشطيها الفاشلين، وتستضيف بعض الشخصيات الفكرية والسياسية التي تآكل خطابها وفقدت مصداقيته وبريقها. ولم تسفر نتائج الانتخابات إلاّ عن بعض الاستقالات السياسية المحتشمة. وإذ نجدّد تأكيدنا على حاجة الديمقراطية إلى التعدّد والتوازن في المشهد الفكري والسياسي، فإننا نهمس في آذان أصدقاء لنا في تيار الحدثوت، نظنّ بهم خيرا، بأنّ مراجعات كبرى وعميقة قد أزفت ساعتها، وأنّ النقد الذاتي أحد عناوين الحداثة الفكرية، وأنّ غدا أفضل لتونس يبنى برعاية الاختلاف والتنافس على ما فيه خير البلاد والعباد. وأنّ التنافس لا يعني التعادي أبدا. وليس عيبا أن نخطئ، ولكن العيب أن نبني على الأخطاء أمجادا.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 128، تونس في 17 أكتوبر 2019
https://scontent.ftun11-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/72146899_623289581535523_9130130397097623552_n.jpg?_nc_cat=109&_nc_oc=AQkCqiJzGGOYsgvsd6uKhnBDQN_xob0kJ1866TIaxc8Sn1L7ZnfX77bqW1u1YQ24uBI&_nc_ht=scontent.ftun11-1.fna&oh=0c1a0cae24093ead626ac5a3a4dc6059&oe=5E26CAE4

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: