تشنّج الخطاب السياسي وعنفه: مؤشرات ودلالات وتداعيات
جريدة الرأي العام، العدد7، تونس في 18 ماي 2017.
أشار رئيس الجمهورية السيد الباجي قائد السبسي في خطابه الأخير إلى الشعب بقصر المؤتمرات يوم 10 ماي 2017، إلى ضرورة الانتباه إلى المخاطر الحقيقية التي تتهدّد المسار الديمقراطي بتونس وإلى بعض المواقف أو الممارسات التي قد تعصف بمكاسب غالية جاءت بها ثورة الحرية والكرامة. ويمكن أن نستحضر في هذا السياق ما تمّ التلميح إليه من تنكّر بعض الأطراف السياسية لمقتضيات الديمقراطية والتسليم بنتائج الانتخابات والاحتكام للدستور وانتظار المواعيد المحدّدة للتنافس على المواقع، أو محاولة البعض حسم الخلافات برفع الأصوات وإحداث الضجيج والاحتكام إلى الشارع أساسا في مناقشة مشاريع القوانين بدل التعاطي معها في موقعها الطبيعي داخل قبّة البرلمان، أو ممارسة الحق الدستوري في الاحتجاج والتظاهر والإضراب والاعتصام بما يعطّل المصلحة العامة ويعتدي على حقوق الآخرين ويأسر الأغلبية لموقف أقلية، وخاصة بما يهدّد جدّيا الاقتصاد الوطني ودورة الإنتاج. لكنّ الذي نودّ التركيز عليه هنا، والذي تجلّى أكثر في بعض ردود الأفعال على خطاب الرئيس، هو تشنّج الخطاب السياسي إلى حدّ العنف اللفظي، والذي يمكن أن نورد أمثلة صارخة لتجلياته حتّى نتوقّف عند بعض دلالاته وما يمكن أن يكون له من تداعيات لا يحمد عقباها.
فهذه نائبة محترمة بمجلس نواب الشعب وممثلة لحزب سياسي، تقول أنّ خطاب الرئيس كان “موجّها فقط لمجموعة من المافيا المتمكّنة من مصالح البلاد والمستحوذة على ثرواتها” وليس موجها للشعب وهو “ممثّلهم” وأنّه بذلك “رئيس مافيا” وليس رئيس دولة، وأنّ “مافيا تحكمنا”. وذاك أحد المترشحين السابقين لرئاسة الجمهورية اشتعل رأسه شيبا، يصرخ أنّ “هذه الحكومة عميلة” ويتنقل بين المنابر تهويلا للمسائل وثلبا للأشخاص والهيئات، بمناسبة وغير مناسبة. وهؤلاء نوّاب وقيادات حزبية يردّدون أنّ الحكام الحاليين “وكلاء استعمار” يخدمون لفائدة قوى أجنبية وأنّ مجلس النواب يخدم “المافيا”. ورئيس حكومة أسبق يصرّح بأنّ الخطاب “منعرج خطير في الحياة السياسية والاجتماعية (…) يعيدنا إلى عهود غابرة وعقلية بالية (…) وانحياز إلى المفسدين القدامى والجدد الذين أحكموا السيطرة على مقاليد الدولة حماية لنفوذهم”. وحزب يقول في بيانه أنّ الرئيس “يعلن الحرب على الشعب” ورابطة لحقوق الإنسان تدعو الرئيس إلى سحب قرار “عسكرة الجنوب”…وتحاليل سياسية أفاضت في التحذير من مسار الانقلاب على الثورة وإنهائها بقانون المصالحة الاقتصادية و”تبييض الفساد” والنزوع إلى “عسكرة المجتمع” وتهديد الدولة المدنية. ولو عدنا إلى التصريحات الإعلامية والملفات التلفزية وبيانات الأحزاب والجمعيات، دون ذكر صفحات “الفايس بوك” بالطبع، التي صدرت بعد الخطاب، لأحصينا العديد من التعابير والأوصاف التي تذهب بعيدا في إفراغ كثير من أمنيات أصحابها أو مكبوتهم السياسي أو رؤاهم للحكم أو مواقفهم المتشنّجة من الرئيس والحاكمين الحاليين للبلاد، حتّى تظنّ أحيانا أنّنا لم نستمع لنفس خطاب رئيس الجمهورية.
ليس ما عرضناه سابقا سوى عيّنات من خطاب سياسي آخذ في التوسع والعدوى، تطغى عليه السوداوية والعدمية والتشاؤم، يعتمد التعميم والأحكام الجزافية، يصف الخصم بالفشل التام ويقدّم نفسه بديلا جذريا، ينضح توتّرا وعنفا أحيانا، وتزيده استعراضات الشاشة في “البلاتوات” و”البُوز” و”البرتاج” على صفحات التواصل الاجتماعي، تأجّجا وجاذبية ورغبة في الشهرة والذهاب بعيدا. ونحسب أنّ أقلّ ما يوصف به هذا الخطاب أنّه غير مسؤول ولا يليق بمقام أصحابه. وإذا أضفنا إلى السياسيين المعلومين، الدخلاء والمتطفلين ممّن لا ماضي سياسيّ لهم ولا قدرة على استعمال معجم سياسي أو صياغة خطاب ولا معرفة لهم ولا أخلاق أحيانا، ندرك إلى أيّ مدى يمكن أن تنزلق الأمور وينزل مستوى الخطاب إلى الحضيض. فيصير مُقرفا ومزعجا وطاردا للناس من “السياسة” رغم حجم التداول والتعليق على تلك التصريحات. فلا يبدو الفارق واضحا بين “حديث المقاهي” و”تحاليل الفاعلين السياسيين” وبين “تدوينات هواة” و”مواقف مسؤولين في الدولة أو الأحزاب أو الجمعيات” وبين “مدارج المشجعين” و”أطراف الحوار السياسي” وبين “الذين يعلمون” و”الذين لا يعلمون” وبين “التكفير العقائدي الديني” و”التخوين والتشكيك في الوطنية والاتهام السياسي”. فيختلط “الحابل بالنابل” ويصير الحكم على السياسيين بالجملة. ويستغلّ المتربّصون بالمسار الديمقراطي المشهد، لتبخيس الأحزاب والسياسة والثورة، والتلميح إلى مزايا العهد السعيد الذي انقضى في غفلة من الناس وبدعم من الخارج.
لا يتوقّف خطر الخطاب السياسي المتشنّج والعنيف، على ما بسبّبه من هتك للأعراض واتّهام للأشخاص والهيئات دون قرينة، وإيذاء للغير ومخالفة للقانون، وإرباك للساحة السياسية وتوتير للعلاقات الاجتماعية، وإشاعة للأحقاد والضغينة، بل يتعدّى ذلك إلى تداعيات وخيمة في الحاضر والمستقبل. فهو إضافة إلى أنّه لا يقدّم حلولا ولا إضافة إيجابية، فإنه يزيد في تعميق أزمة الثقة بين الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، والتباعد بين السلطة والمعارضة، وإفساد العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، وتخويف المستثمرين، وإشاعة مناخات العنف اللفظي والمادي، ودفع أغلبية المواطنين إلى “الكفر” بالسياسة وإلى اللامبالاة والتخلي عن ممارسة مواطنتهم بالاهتمام بالشأن العام والمشاركة في الانتخابات، وتدمير المعنويات…فهل أكثر من ذلك خطرا على مسار الانتقال الديمقراطي وتهددا لمستقبل البلاد والعباد.
إنّ غياب أي تعاون بين المعارضة والسلطة أمر مرفوض وغير عادي، خاصّة في ظل النظام السياسي الحالي، وهو مؤشر على العلاقات المتشنّجة. فالمعارضة لست في صراع وجود مع السلطة بل في صراع أفكار، تتأثر وتؤثر. ومنطق التنافي، والعمل على “استئصال الخصم” ليسا من قاموس التنافس السياسي السلمي. والضغط العالي والعجلة في الأمر لا يعملان بالضرورة لصالح تحقيق أهداف الثورة وإنجاح الانتقال الديمقراطي. والعلاقة بين السلطة والمعارضة لا تتحدّد فقط من خلال شرعية المطالب، بل من خلال أخذ الواقع وتعقيداته بعين الاعتبار ووضع خطّة سياسية تعمل على تحقيق الأهداف المتفق عليها في أفق زمني واقعي. فالإدراك السياسي للزّمن، يعطي للعمل السياسي بعده الواقعي ويخرجه من دائرة الرغبات والأحلام. لذلك لا ننفكّ عن التذكير بأنّ الاستسلام لخطاب التيئيس والإحباط بأيّ حال، لن يخدم قضية شهداء الثورة وجرحاها، ولا حقوق المضطهدين والضحايا ولا مطالب التشغيل والتنمية العادلة، بل كثيرا ما يكون خطاب التيئيس والعدمية تمهيدا للاستسلام للاستبداد الذي تُفتل حباله بمكر وعلى مهل. “ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين”.