بعد ثلاث سنوات من الثورة..حقيق بنا أن نُفصح..

بعد ثلاث سنوات من الثورة..حقيق بنا أن نُفصح..

 

جريدة الضمير في أربع حلقات بتاريخ 12 و14 و15 و16 جانفي 2014

 

يحيـي التونسيــون الذكــرى الثالثــة لثــورة الكرامــة والحريـــة 17 ديسمبر/ 14 جانفي، مرة أخرى

في ظلّ حالة من الانقسام السياسي الذي لم يسمح حتّى الآن بالاتفاق على تاريخ موحّد لذكرى الثورة فضلا عن أنشطة مشتركة للاحتفال بها، ووسط مخاوف متعدّدة وخاصة منها الأمنية، لم تتح فرصة لمعنى الاحتفال أصلا منذ هروب الدكتاتور. وفي انتظار النتائج النهائية للحوار الوطني على جميع المسارات، الذي مازالت بعض الآمال معلّقة عليه، رغم الصعوبات والخيبات، في تجاوز الأزمة السياسية خاصة، وإحياء ذكرى الثورة يوم 14 جانفي 2013 في أجواء احتفالية وتضامنية، في انتظار ذلك، وبعد ثلاث سنوات من الثورة المجيدة، وبعد أن ابتعدنا نسبيا عن أجواء الضغط بأنواعه وتراجعت العواطف لتفسح المجال للعقل بالمراجعة والتحليل، نرى من حقّنا ومن واجبنا في آن، أن نفصح عن بعض المعطيات والاستنتاجات التي نقدّر أن الوضوح فيها بات مطلوبا بل شرطا للنجاح في استكمال المسار الديمقراطي وتحقيق أهداف الثورة.

1 ـ ثورة حقيقية

بعيدا عن الجدال العقيم أحيانا حول مفاهيم الثورة والانتفاضة والاحتجاج والغضب والتمرّد وغيرها من المصطلحات التي يختلف المحللون في أيّهـــا الأنسب فــي توصيف مــا حصــل بتونس ما بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011، يسلّم الجميع بأن أقل من شهر من التحركات الشعبيّة التي انطلقت من سيدي بوزيد وامتدت إلى القصرين بالوسط الغربي التونسي لتأخذ منعرجا حاسما، ولتعمّ مختلف الولايات بدرجات متفاوتة من الاحتجاج، كانت كفيلة بوضع حدّ لنظام بوليسي كان يُنظر إليه على أنه من أعتى الدكتاتوريات في المنطقة. تساءلت شخصيّا في مقال نشرتة مطلع جانفي 2011 بعنوان: الغضب الاجتماعي بالوسط التونسي: هل يكون البداية؟ (1) وجاء الجواب سريعا. ولعلّه من المفيد أن أذكّر ببعض المقتطفات من ذلك المقال لأهميتها في إضـــاءة جوانب مــن واقع الحــال، والتي ذكرت فيها أن « تحرّكات الغضب الاجتماعي بولاية سيدي بوزيد بالوسط التونسي التي امتدت على مدى الأسبوعين الأخيرين من سنة 2010، وجّهت ضربة مُوجعة للخطاب السياسي الرسمي القائم على جُمل دعائية مفادها : «نجحنا ..ورضي المواطنون.. وشهد لنا العالم ..وسنواصل». كما شكلت تلك التحركات بتلقائيتها وخلفياتها الاجتماعية وما لاقته من تجاوب في بقية جهات البلاد وما حظيت به من دعم سياسي وتغطية إعلامية واسعة، فرصة استثنائية للوقوف على قضايا وطنية في غاية الأهمية». وأضفت أن «تحركات الغضب الاجتماعي بولاية سيدي بوزيد خاصة، وما سبقها من أحداث بالحوض المنجمي وبجهات أخرى تؤشر على أنّ الانجازات دون المطلوب، وأن ثمار التنمية تحتاج إلى عدل أكبر في التوزيع، وأن الرضا عن النفس مضرّ، وأن صبر المواطنين محدود، وأن استحسان الأجانب لا يصمد أمام مظاهر الغضب الشعبي. وأن مراجعات جوهرية باتت متأكدة لمنوال التنمية في الثقافة التي يستند إليها وفي الأهداف التي يضعها وفي قاعدته الاقتصادية بالداخل والخارج وفي الخيارات التي ينتهجها والسياسات التي يعتمدها». وشدّدت على أنّ «المعارضة بجميع أطيافها، بأحزابها وجمعياتها، وبنشطائها السياسيين والحقوقيين، لم تُوفّق في الصياغة المناسبة للتّلازم بين الحقوق المدنيّة والسياسيّة والحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وبين مطالب الحرّيات الفرديّة والعامّة ومطالب تحسين ظروف عيش المواطنين. ولذلك تُربك الاحتجاجات الاجتماعية في كل مرة المعارضة في خطابها وأجندتها.» ولستُ أبالغ حين أقول اليوم أننا بعد ثلاث سنوات من ثورة 17 ديسمبر لم نستخلص الدرس في الممارسة سلطة ومعارضة، ولم نوفّ حقوق الشهداء رحمهم الله تعالى والجرحى والمستضعفين الذين فجروا تلك الثورة العظيمة، وما زال الوضع تقريبا على حاله.

هرب المخلوع وبعض أفراد عائلته مساء يوم 14 جانفي 2011، وانزاح عن تونس كابوس الاستبداد والفساد. تحرّر التونسيون ودخلوا في أجواء ما تواضعوا على تسميته بالثورة، التي دخلوا في حركيتها بعد 14 جانفي بأعداد أكبر بكثير مما حصل قبل ذلك. تسارعت الأحداث وسط مخاوف أمنية جمّة وتضامن شعبي لافت في حماية الأحياء والممتلكات العامة والخاصة وفي ظل غموض في تفسير ما يحدث. غادر نزلاء السجون من السياسيين وأصحاب الرأي خاصّة مواقعهم وعاد المهجّرون قسريّا تباعا. نشطت الأحزاب والجمعيات بعد إعلان العفو التشريعي العام وإطلاق حرية التنظّم القانوني. تغيّرت ملامح الإعلام الخشبي وارتفع منسوب حرية التعبير إلى درجات قياسية. قادت بعض التحركات التلقائية في الإدارة والمؤسسات والمدن والقرى إلى إجبار مسؤولين في العهد البائد على التنحّي تحت شعار «ديقاج» واستبدالهم بآخرين، وشملت العملية حتى بعض أئمة المساجد. كثر الجدال واللغط في أغلب الأحوال حول الماضي والحاضر والمستقبل وتوّجت المرحلة الانتقالية الأولى التي اعتمدت على «التوافق» بانتخابات المجلس الوطني التأسيسي يوم 23 أكتوبر 2011 التى أشاد الجميع في الداخل والخارج بنزاهتها واعتبارها أول انتخابات حرّة وتعددية وشفافة في تاريخ تونس.

انتصب مجلس تأسيسي منتخب من المعارضين السابقين في أغلبيته الساحقة، وإن بدا كثير منهم من غير المعروفين، واختار أعضاء المجلس المعارض البارز مصطفى بن جعفر رئيسا له. تمّ تسليم السلطة للفائزين في الانتخابات وسط أجواء لافتة وُصفت بالمتحضّرة والديمقراطيّة. دخل المنصف المرزوقي، المعارض الشرس لبن علي،  قصر قرطاج رئيسا لتونس. ودخل حمادي الجبالي السجين السياسي من حركة النهضة المحظورة سابقا، قصر القصبة، رئيسا لحكومة كان كثير من أعضائها من المساجين السياسيين والمهجّرين والمعارضين البارزين. وكانت كل هذه التحوّلات التي حاولنا اختزالها في العناوين الكبرى أدلّة قاطعة على أن تغييرات كبرى قد حصلت في الحكم وفي المجتمع، يحقّ وصفها بالثورة دون تردّد. ثورة شدّت أنظار العالم وشاع خبرها، وسرعان ما انتقل فتيلها إلى ربوع عربيّة أخرى في مصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا، وكان انتصار الثورة في مصر وليبيا خاصة خير سند للثّورة التونسيّة.

2 ـ ثورة مخصوصة

خلال ثلاث سنوات بعد الثورة تعاقبت علينا أربع حكومات والخامسة في الطريق، لكن إلى حدّ الآن لا توجد رواية رسميّة لما حدث في يوميّات الثورة وخاصة يوم 14 جانفي وما تلاه. كما لا توجد روايات غير رسميّة موثوق بها ومتفق عليها. مازال التونسيون يتطلّعون إلى الحقيقة. من قتل الشهداء وأصاب الجرحى؟ ما حقيقة القنّاصة؟ ما الذي دفع بن علي إلى الهروب المفاجئ؟ ما تفاصيل ما جرى بقرطاج في الساعات الأخيرة قبل الهروب وما تلاها من قرارات؟ من كان يدير دفّة الأمور ويقف وراء القرارات الحاسمة؟ ما حجم التدخل الخارجي في الأحداث والقرارات؟ من هي الجهات المتدخّلـــة؟ هل فرّ بن على أم أجبـــر علـــى المغــــادرة؟ ماذا حصل في صفوف قوات الأمن والجيش؟ ما حقيقة محاولات الانقلاب الفاشلــة أو المتضادّة؟ ما جوهر الصّراع داخل النخبة الحاكمة وما هي أطرافه؟ ما سرّ الاعتقالات في صفوف القيادات الأمنية والسياسية؟ هل حصلت صفقات سياسيّة من وراء ظهور عموم التونسيين؟…أسئلة عديدة لم تحسم أجوبتها ومعطيات كثيرة لم يتم الكشف عنها رغم أعمال اللجان العديدة التي تشكلت في الغرض ورغم مرور وقت ليس بالقليل. وهذا ما يزيد في صعوبة فهم ما حدث وفي تعقيدات الجدال النظري حول الثورة التونسية.

رضي عموم التونسيين أن يتمّ التحول «الثوري» في إطار «دستور» 1959 المنقّح مرارا على القياس، والذي طالما انتقدته المعارضة واعتبرته غطاء للاستبداد. وتم تنصيب رئيس «برلمان بن علي» السيد فؤاد المبزع رئيسا مؤقتا للجمهورية بعد الثورة. ودخلت وجوه بارزة من المعارضة في حكومة مع وزراء سابقين برئاسة السيد محمد الغنوشي الوزير الأول في «حكومة بن علي» وبدا الأمر أقرب إلى استمرار «حكم التجمع الدستوري» دون بن علي وعائلته. استمر غضب الشباب واحتجاجاتهم وتصاعد وهج الثورة في اعتصام القصبة1 واعتصام القصبة2 وتشكلت معارضة لهذا المسار في إطار «المجلس الوطني لحماية الثورة» الذي ضمّ أهم الأحزاب برعاية الاتحاد العام التونسي للشغل والهيئة الوطنية للمحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، فكانت من نتائج تصاعد الاحتجاجات والضغوط، استقالة حكومة السيد محمد الغنوشي وإعلان الرئيس المؤقت إلغاء العمل بالدستور وحلّ الهيئات الدستوريّة القائمة وتحديد موعد لانتخاب مجلس وطني تأسيسي. تشكّلت في ظروف اعتراها كثير من الغموض حكومة جديدة برئاسة السيد الباجي قائد السبسي، الوزير الأسبق في حكم الرئيس بورقيبة ورئيس برلمان أسبق في أوائل حكم بن علي، لتأمين الانتخابات واستكمال المرحلة الانتقالية التوافقية، وتواطأت مختلف الأطراف السياسية والاجتماعية والمدنية في القبول بحكومة سي الباجي. وتمّ بعث «الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي» برئاسة السيد عياض ابن عاشور لتحلّ عمليّا مكان المجلس الوطني وتعمل في إطار رسمي بالتعاون مع الحكومة، وبسقف أقلّ بكثير مما طرحه «المجلس الوطني لحماية الثورة» في التنقيحات التي اقترح إجراءها على المرسوم الرئاسي المحدث للهيئة العليا.

هكذا بدت المرحلة الانتقالية الأولى مزيجا من الخطابات والمطالب والقرارات الثورية ومن القرارات والإجراءات والممارسات المضادّة للثورة. إذ تم من ناحية إقرار العفو التشريعي العام واعتقال بعض رموز النظام السابق وحلّ التجمع الدستوري وإدخال تغييرات في وزارة الداخلية ومصادرة بعض الأملاك المرتبطة بالرئيس السابق وعائلته وبشبكات الفساد المالي والتوجه إلى انتخاب مجلس وطني تأسيسي وتشكيل هيئة عليا مستقلة للانتخابات…وتمّ من ناحية ثانية وبالتّـــوازي، تلاعب بجــزء مــن الأرشيــف وتنقّــل مشبـــوه للأموال واستعادة بعض الوجوه والدوائر المرتبطة بالمنظومة القديمة لمواقع النفوذ في الإدارة والإعلام والأمن والقضاء وتشكيل مجموعات من التجمع المنحل، الذي لم يتمّ تفكيكه، لأحزاب بعناوين جديدة، وغياب أية رؤية أو توجّه جديّ للمحاسبة والمصارحة والمصالحة ولإصلاح المؤسسات والقطاعات وخاصة الداخلية والقضاء والإعلام…

تمّ التركيز قصدا، من بعض الجهات التي انتسبت إلى الثورة مُخاتلة، على أن الثورة التونسية تلقائية وسلمية، لا قيادة لها ولا دور للأحزاب السياسية فيها، وأنّ مطالبها اجتماعية وتنموية وليست سياسية، وذلك بغاية إفراغ الثورة من محتواها والمساواة بين المتسببين فيها بفسادهم وظلمهم من المنظومة القديمة والخاسرين لمواقعهم ومصالحهم بسببها، وبين المشاركين فيها من المُكتوين بنار الاستبداد والفساد، من مختلف الأجيال والاتجاهات الفكرية والسياسية، الذين راكموا أسبابها بنضالاتهم وتضحياتهم، والمستفيدين من هذه الثورة المباركة التي توّجت مسارا ولم تحصل فجأة كما يتم الترويج لذلك، بصرف النظر عن تعقيدات اليوميّات الحاسمة في الثورة والمتدخلين فيها والفاعلين في نتائجها.

لهذه الأسباب جميعا، ولتفاصيل أخرى يطول شرحها، يمكن القول أن ثورة الحرية والكرامة التونسية، ثورة حقيقية لا مصلحة في التشكيك فيها، للمنحازين إليها والمستفيدين من حصولها، لكنها تبقى ثورة مخصوصة على غير مثال سابق، يتحدّد مصيرها ومدى نجاحها في تحقيق أهدافها بمدى قدرة المدافعين عنها في مواجهة القوى المضادة للثورة وإحباط مخططاتهم لإفشال مسارها والانقضاض على مكتسباتها. وأحسب أن  الانتصار الحقيقي للثورة لن يكون بالمزايدة في الانتساب إليها والوصاية عليها بخطابات «ثورجية» تنفّر ولا تبشّر، وتهدم ولا تبني،  وتفرّق ولا تجمّع، بل بخطاب إصلاحي أصيل وبدائل عملية تكشف قدرة على الاقتراح، وتوازي بين الهدم والبناء وتقطع مع منظومة الفساد والاستبداد، دون أن تفرّط في المكاسب وتضم جهود المتأخرين لمن سبقهم في الخير والإصلاح.

3 ـ مسار تأسيسي خاطئ

تمرّ تونس بعد ثلاث سنوات من الثورة بأزمة سياسيّة حادّة، يحتدم فيها الصراع العاري حول الحكم ويضرب فيها الإرهاب بقوة وتدخل أجهزة الدولة سرعة قصوى في مواجهته، وتتعاظم مخاطر الانهيار الاقتصادي والانفجار الاجتماعي والفوضـــى وتتزايــــد التدخــــلات الخارجية في الشأن الداخلي  ويُلقي الزلزال السياسي المصري بظلاله على الساحة الوطنية. وتبدو الأزمة الحالية وثيقة الصّلة بمسار ما بعد الانتخابات.

لم يكن الخطأ في اختيار انتخاب مجلس وطني تأسيسي كما يرى البعض، فهذا الاختيار يبدو أقرب إلى جوهر الثورة في النزوع إلى القطع مع منظومة الفساد والاستبداد، بل كان الخطأ في ضعف تمثّل مقتضيات التأسيس والتعاطي غير المناسب مع تلك المقتضيــــــــات. إذ تعكس الأزمة الحالية في العمق، مأزق مسار تأسيسي خاطئ نبّهنا إليه مبكّرا حين قلنا بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 أن «استقطاب المشهد السياسي بين حكومة ومعارضة نراه غير صحّي في سياق تأسيسي، يقتضي شراكة لا تطمس التعددية وحقّ الاختلاف.  فالأطرف الحاكمة مهما كانت شرعيّتها، لا يمكن أن تستأثر بالمرحلة لوحدها. والشرعية الانتخابية غير كافية لممارسة السلطة. إذ لا يمكن الحكم بمنطق الأغلبية في غياب دستور وعقد اجتماعي وسياسي واتفاق بين جميع الأطراف على قواعد إدارة الحكم.  كما أن الأطراف السياسية التي اختارت المعارضة مبكّرا وصنعت حاجزا بينها وبين الحكومة، تتحمل المسؤولية في المشهد الاستقطابي السلبي ومخاطره. فمن كان شريكا في الثورة، عليه أن يدافع عن حظوظه في المشاركة السياسية ويواصل إسهامه في إنجاح المرحلة وتحقيق أهداف الثورة. فالديمقراطية تكليف ومراقبة وليس تفويضا مطلقا لأي طرف. والتوازن ضروري للمجتمع في كل الأحوال».(2)

كانت فكرة الحكم من خلال ائتلاف حزبي ثلاثي اختيارا صائبا مقارنة بالتجربة المصرية على سبيل المثال، مع أن ذلك الثلاثي لم يمنح الحكم الجديد السند السياسي الكافي لمواجهة تحديات كبرى بعد الثورة وإرث ثقيل لم يحسن الثلاثي الحاكم تقديره. فالشرعية الانتخابية التي بالغت «الترويكا» في التذكير بها، لم تمنحها القوة السياسية المطلوبة للحكم وفرض التقيّد بالقانون. مما شجّع على الانفلات الأمني واستفحال الجريمة بأنواعها وتهديد الممتلكات الخاصة والعامة وتهديد الحريات والعجز عن التحكم في الارتفاع المشط للأسعار واستمرار الاحتجاجات الاجتماعية وعدم نشاط الاستثمار الداخلي والخارجي بالنسق المطلوب. ولذلك نادينا بعد مواجهات أحداث 09 افريل 2012، أي أشهر قليلة بعد حكم «الترويكا»، إلى «مبادرة سياسية لخفض التشنج وبناء الشرعية»(3). وعملنا في هذا الاتجاه ولم نجد التجاوب الكافي.

أساءت «الترويكا» استخدام التفويض الشعبي، فبدت تشتغل كوريث للحكم المنهار في حين تشدّد في خطابها على التأسيس والقطع مع الماضي. ودفعتها نشوة الانتصار في الانتخابات في المرحلة الأولى من الحكم خاصة إلى إظهار استعلاء ونزعة في الهيمنة زادتا في توتير الوضع السياسي. ولذلك اعتبرنا دائما أن  تعبير «الصفر فاصل» في وصف المعارضة تعبير خاطئ ومُضلّل وسلبي.

تعدّدت أخطاء الثلاثي الحاكم بقيادة حركة النهضة، الذي لم يف بوعوده المعلنة في برامجه وحملته الانتخابية،  وكشف عن سذاجة سياسية أو سوء تقدير، حين علّق آمالا عريضة على انتصار الثورة الليبية وعلى وعود الأشقاء والأصدقاء بالدعم المطلوب. وتآكلت مصداقيته مع مرور الأشهر وتجديد وعوده بالنتائج المرجوّة في قادم الأيام. عجزت الحكومة على تنفيذ مشاريعها المعلنة في الجهات المحتقنة خاصة. تفاقم التهريب بأنواعه واستشرى الاحتكار والفساد وارتفعت الأسعار وكثر التذمّر الشعبي من صعوبات العيش وتراجع الخدمات. تعطّل الإنتاج في قطاعات حيوية وخاصة في الفسفاط وتضررت ميزانية الدولة، فازدادت المصاعب المالية وارتفعت المديونية وشحّت القروض. تأزمت العلاقة بالنقابات وخاصة بالاتحاد العام التونسي للشغل في مناسبات عديدة،  وتنامى العنف اللفظي والمادي حتى بلغنا الاغتيال السياسي. وتصاعدت المخاوف الأمنية بعد الاكتشافات المتكررة لمخابئ للأسلحة في مناطق مختلفة من البلاد وتم استهداف عناصر من الجيش والأمن الوطنيين على يد إرهابيين. تراكمت التجاوزات في مجال انتهاك حقوق الإنسان، فكان القمع البوليسي على طريقة النظام السابق في أكثر من مناسبة وتأزمت العلاقة بالمعارضة الديمقراطية داخل المجلس التأسيسي خاصة، وكانت المواجهة مع المتشددين الدينيين على أكثر من صعيد، ودخل عنصر الدم مجددا على الخط بعد الثورة. وتواترت أخبار عن عودة التعذيب واستشهد مضربون عن الطعام بالسجون. كما تكرّرت الإخفاقات في السياسة الخارجية ولم تظهر مؤشرات ايجابية نوعية في العلاقة بالجيران. (4)

تأخر مسار العدالة الانتقالية، الذي تتحمل فيه «الترويكا» المسؤولية الرئيسية،  وتنامت أزمة الثقة بين الماسكين الجدد بالسلطة وبين خصومهم، من أصدقائهم في المعارضة بالأمس أو من المستفيدين من الحكم السابق.  يتبادل الفريقان تهم احتكار السلطة وعقلية الغنيمة ونزعة الهيمنة غير المشروعة على الدولة من جهة، أو عدم التسليم بنتائج الانتخابات الحرّة والتآمر على السلطة الشرعية وعرقلة عملها ومحاولة الانقلاب عليها، من جهة أخرى.

لعبت المعارضة أدوارا سلبية في عرقلة المسار التأسيسي وإرباك الحكم الجديد واتخذت بعض أطرافها منحى انقلابيا أصلا، ولم تتحمل أطراف أخرى منها مسؤولياتها بالقدر الكافي في البناء، باعتبارها شريكة في السلطة اعتمادا على تمثيليتها في المجلس الوطني التأسيسي بصفته السلطة الأصلية. لكن المعارضة في المحصّلة استطاعت أن تخلق حالة من التوازن في المشهد السياسي، الذي يبدو ضروريا للديمقراطية، وكان مفقودا في نتائج الانتخابات. كما نجحت المعارضة في الاستفادة من انحياز الإعلام عموما ضدّ الحكم لتفرض عليه حالة من الضغط والمراقبة الايجابية، وتجبره على المراجعة والتعديل في مرّات عديدة وفي مواضيع مختلفة.

وإضافة إلى ما سبق، زادت الأخطاء المنهجية في تمشي المجلس الوطني التأسيسي الطين بلّة، وخاصة عدم تقيده بفترة زمنية، وضعف أداء رئيسه وأعضائه، وحدّة المناكفات السياسية داخله، وحصر مهمة التأسيس تقريبا في الدستور الجديد، الذي حاول البعض حصر مهمة المجلس فيه، والحال أن التأسيس كان يقتضي في الحدّ الأدنى وفي المقام الأول تقييما عميقا لخيارات الحكم السابق وأخطائه الكبرى والتوافق على ملامح مشروع وطني جديد يوجه السياسة الداخلية والخارجية في مختلف المجالات. كما يقتضي تسريع آلية وطنية متفق عليه للمحاسبة والمصارحة والمصالحة الوطنية.

4 ـ  مخاطر تتهدد المسار الثوري والانتقال الديمقراطي

نجح هذا الجيل في الثورة على رموز الاستبداد وأبعدهم من رأس الدولة، وحقق ما عجزت عنه أجيال سابقة، وكسّر قاعدة الاستثناء العربي، لكنه فشل على ما يبدو إلى حدّ الآن في إسقاط النظام القديم وبناء ديمقراطية فعلية. وقد كشف التجربة المصرية أنّ عوامل خارجية، إضافة إلى الأسباب الداخلية المعلومة، ساهمت في إجهاض الحلم العربي في الديمقراطية، باعتبارها شرط التنمية الشاملة والنهضة الحضارية، وأن عناصر قديمة مؤثرة في الوضع العربي، ما زالت تفعل فعلها بقوة. وليس الدور  الخليجي المؤامراتي الذي تأكد في ما حصل من انتكاسة بمصر، والتواطؤ الدولي المريب، الذي تلكأ في إدانة الانقلاب وما تلاه من مجازر في حق المصريين العزّل، سوى برهانا على ذلك. لذلك يتعيّن على الثوريين المخلصين أن ينجحوا في كشف المخاطر والمؤامرات الداخلية والخارجية، وأن يعملوا بواقعية على تفكيك منظومة الفساد والاستبداد وحماية القرار الوطني المستقل والالتحام بالجماهير التي تظل يقظتها ومشاركتها في رفع التحديات أكبر تحصين للثورة ضدّ أعدائها. وأن يعمّقوا النظر أكثر في تعقيدات التغيير ومتطلباته، في ضوء المشهد العربي عموما والتونسي خصوصا، لنستفيد من تجارب الماضي ونعي حقائق الأمور بعيدا عن العنتريات والأحلام الوردية والشعارات وتبسيط القضايا إلى حد الإسفاف. (5)

لن نكسب شيئا من تبادل التهم وتحميل المسؤولية لجهة واحدة في تعثّر مسار الديمقراطية وتحقيق أهداف الثورة. فالمسؤولية تظل جماعية وإن اختلفت الدرجات والمقادير. للحاكمين الجدد مسؤولية وللمعارضة ولمن هم خارج هذا التصنيف من سياسيين ونشطاء في المجتمع المدني، وللقوى المضادّة للثورة في الداخل والخارج تأثيرها. ولعامة قوى الشعب مسؤولية أيضا. أخطأنا في الحكم وفي المعارضة كما أسلفنا، ولكن لم نحسن عموما ترتيب الأوليات ولم نظهر ما يكفي من التضحية والصبر والتضامن في ظروف انتقالية صعبة. تحرّكت المصالح الشخصية والفئوية والنعرات الجهوية والقبليّة. تراجع الإقبال عن العمل وأداء الواجب. بلغ عدد الإضرابات والاعتصامات رقما قياسيا. استجابت الحكومات المتعاقبة لبعض المطالب تحت الضغط فأثقلت كاهل الدولة. لم يستأنف الاقتصاد دورته العادية وصارت المؤشرات السلبية للنمو وحدّة الأزمة السياسية وغموض المسار عوامل مضاعفة للأزمة المالية ولمخاطر الانهيار الاقتصادي. تراجع منسوب الرغبة في المشاركة في الحياة العامة والانخراط في الأحزاب والجمعيات وبتنا نسجل عزوفا متناميا لدى الأغلبية من الشباب خاصة، بما يؤشر على استمرار أزمة التنمية السياسية وضعف ثقافة المواطنة والديمقراطية.

لقد جربنا التغيير بالبداية من الأعلى واستهداف رأس السلطة والتعويل على قوة الدولة أكثر من الاهتمام بتطوير المجتمع، وكانت النتائج مخيبة للآمال على مدى عقود، فهل نعي الدرس ونعدّل البوصلة ونجرّب مداخل ثبت نجاحها ولو في ربوع أخرى؟ هل حان الوقت لمراجعة عميقة لمناهج التغيير التي دأبنا عليها وروّجنا لها طويلا، وللفكر السياسي الذي قادنا في السابق؟ وهل نوفّق في بناء الثقة ووضع مُعجم خاص بالانتقال بين الفاعلين السياسيين، وتطوير الوفاقات عبر حوار وطني حقيقي، ووضع الآليات الضامنة للتطبيق والحامية للمكتسبات. فنتوخي المرحلية في تغيير الواقع نوعيا، دون هزات لا يتطلبها وضعنا ولا يتحملها. ونستحضر المشترك ونبني عليه ونستبعد التنافي والإقصاء والإكراه ونحلّ التنافس السياسي بدل العداوة. ونعتمد الإصلاح الذي ينطلق من مرتكزات إيجابية في الواقع لمعالجة السلبيات، ويستبعد النقض واستئصال الخصم والبدائل الشمولية. ونتوخى التدرج والمرحلية والواقعية ونبحث في الممكن ونتفهّم تعقيدات الواقع وصعوباته، ولا نقع تحت إغراءات  الفرضيات الذهنية القصوى. ونعمل بجاذبية الديمقراطية ونتحرك بروح التجديد والتطوير ومُراكمة الايجابيات والاستفادة من الأخطاء والمراهنة على المستقبل بتمكين الشباب وإعطائه الأولوية في الاهتمام والتكوين وتحمل المسؤولية في القيادة واتخاذ القرارات.(6)

نتمنى أن تكون الذكرى الثالثة للثورة فرصة حقيقية للمراجعة وتصحيح المسار، وإذ نسجل بارتياح التقدم الحاصل في الحوار الوطني ونأمل أن تهيئ الوفاقات على مختلف المسارات لإنهاء ما تبقى من المرحلة الانتقالية في إطار من الوفاق الوطني المفضي إلى تنظيم انتخابات عاجلة في مناخ سياسي وأمني واجتماعي مناسب وبضمانات تجعل مختلف المتنافسين فيها يقبلون بنتائجها، فإننا ننبّه إلى أن البحث عن التوافق والاحتكام إلى شخصيات «مستقلة» لا يجب أن يكون على حساب التنافس الديمقراطي والصراع حول تحقيق أهداف الثورة، ولا يؤدي إلى إضعاف الأحزاب التي تضل قوام الحياة السياسية مهما بلغت أخطاء السياسيين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مقال منشور بجريدة الضمير (يومية تونسية) في أربع حلقات بتاريخ 12 و14 و15 و16 جانفي 2014

الهوامش

(1) مقال منشور بجريدة «مواطنون» العدد140، تونس، جانفي 2011 وبالتوازي في جريدة «القدس العربي».

(2) راجع على سبيل المثال مقالنا  بعنوان «على هامش التجاذبات حول أحداث 9 أفريل 2012:  مبادرة سياسية لخفض التشنّج وبناء الشرعية» منشور بجريدة المغرب (اليومية التونسية) بتاريخ 13 أفريل 2012. وكذلك مقالنا بعنوان «23 أكتوبر: شرعية ضرورية لكن ليست فوق النقد» منشور بالعدد 14 من مجلة «الإصلاح» الالكترونية  بتاريخ 05 أكتوبر 2012. ومقالنا «بين حكم خائف ومعارضة يائسة: متى يأذن صبح العرب بالبلج؟» منشور بالعدد 29 من نفس المجلة بتاريخ 03 ماي 2013. (www.alislahmag.com).

(3) مقال  منشور بجريدة المغرب بتاريخ 13 أفريل 2012.وبالتوازي في جريدة الضمير(اليومية التونسية).

(4) مقال منشـــور بجريــــدة «الغـــرب»، عــدد 519، ص17،  بتاريخ 8ماي 2013.

(5) راجع مقالنا بعنوان « يوميّات الزلزال السياسي بمصر: ولا بدّ للثورة أن تنتصر» منشور بالعدد 34 من مجلة «الإصلاح» الالكترونية بتاريخ 12 جويلية 2013 ومنشور بالتوازي في جريدة الضمير.

(6) راجع مقالنا بعنوان «بين حكم خائـف ومعارضة يائسة: متى يأذن صبح العرب بالبلج؟» منشور بالعدد 29 من مجلة «الإصلاح» الالكترونية  بتاريخ 03 ماي 2013.

 *منشور بمجلة الإصلاح العدد47  بتاريخ  2014/01/10

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: