بؤر للوباء.. وبؤر أكثر للفقر..أيّة سياسة لحكومة الفخفاخ؟
كشفت مصالح وزارة الصحة في سياق الحرب على فيروس كورونا القاتل، عديد بؤر للوباء بعد التحوّل من الإصابات الوافدة إلى الإصابات بالعدوى الأفقية، ونجحت في القضاء على بعضها والحدّ من انتشار المرض. وبالتوازي مع ذلك كشف قرار الحجر الصحي العام والإجراءات الاجتماعية التي اتخذتها الحكومة عن عدد مفزع من بؤر الفقر بتونس، وعن قصور واضح في الأداء الرسمي لإنفاذ الإجراءات، وجاءت المؤشرات سلبية جدّا عن مدى قدرة الدولة على الإحاطة بالمعنيين بها وإسعافهم، بما يزيد في حجم التحدّيات الاستراتيجية التي تواجه الحكم في علاقة بالحرب على الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية التي تظل الكرامة بلا معنى في غيابها من جهة، وفي علاقة بتداعيات اتساع الفوارق الاجتماعية ببلادنا والكلفة السياسية لتوسّع الفقر وتنامي الشعور بالغبن وما ينجم عنه من غضب اجتماعي.
ما نروم لفت الانتباه إليه، من خلال هذه المقابلة بين بؤر الوباء وبؤر الفقر، هو الفارق الصارخ في النتائج النهائية والتداعيات المستقبلية. ذلك أنّ بؤر الوباء متغيّرة فقد يتمّ القضاء على بعضها في مدّة وجيزة، وقد تشأ بؤر جديدة، لكن المؤمّل في نهاية الحرب أن تنتفي جميعها ونبدأ في التعافي النهائي من الفيروس مهما طالت المدّة. فالمحصّلة أنّ بؤر الوباء، مهما تعدّدت آيلة للانقراض في مستقبل منظور، وأنّ الحرب على كورونا ستعجّل بتطوير قدرات وزارة الصحة ومعالجة الخلل المتراكم في وضع الصحة العمومية.
وفي المقابل تبدو المحصّلة عكسية في مواجهة بؤر الفقر. فقد أبانت الإجراءات الاجتماعية المعلنة لمساعدة الفئات الضعيفة على مواجهة تداعيات الانقطاع الإجباري عن العمل، أنّ عدد المحتاجين والجائعين بتونس يفوق المقدّر في دفاتر الوزارات والإدارات، وأنّ التعقيدات في الإحصاء والضبط وطرق إيصال المساعدات إلى مستحقيها زادت في توتّر علاقة المعنيين بالمسؤولين مهما كانت مواقعهم. وأنّ المساعادات المالية أو العينية، المكلفة جدا في حسبات الحكومة، تبدو محدودة جدّا، لا ترضي المستفيدين منها وتزيد في معاناة المحرومين منها وغضبهم. وهي في نهاية الأمر لا تغيّر نوعيّا في حياة المستفيدين من تلك المساعدات ولن تقضي على أيّة بؤرة للفقر. وربما يحصل العكس بحساب التداعيات الاقتصادية لكورونا على استهلاك رصيد المدّخرات وفقدان بعض مواطن الشغل وصعوبات وضع الحكومي والمجتمعي.
تركّزت الاهتمامات في منابر الإعلام التقليدية أو الافتراضية على ما سببته طرق صرف المنح المالية للعائلات من خرق للحجر الصحي أو مخاطر للعدوى، وتحويل بعض تلك المنح إلى غير مستحقيها، وقد تمّ تلافي النواقص تدريجيا من المعنيين بالأمر. لكن من موقع مسؤوليتي النيابية الرقابية والجهوية أساسا، أجزم بأنّ الموضوع أعمق، على أهمية ما تمت إثارته. فولاية باجة على سبيل الذكر لا الحصر، ينفطر القلب من فرط معاينة أحوال الناس في بؤر الفقر التي تمتدّ على مساحة المعتمديات التسع، في الأرياف كما في المدن وأحوازها. فنسبة البطالة العالية جدا في ظلّ العدد المحدود من المؤسسات التشغبلية، والمداخيل الضعيفة للعاملين في الحضائر والأعمال الفلاحية واليومية بصفة عامة، والعدد المرتفع لأفراد أغلب الأسر، واستمرار وضع التهميش للجهة و غياب أية سياسات لضمان تكافؤ الفرص وتحقيق العدالة الاجتماعية، عناصر تجعل الفقر موروثا عبر الأجيال، وتجعل المساعدات التي تؤمّنها الدولة أو المجتمع المدني، مجرّد مسكّنات وقتية لا تسمن ولا تغني من جوع.
وأمام تعاظم الطلبات، وضغط الأزمة المتنامي، وعدم إيفاء المتوفّر من المساعدات بالمطلوب، بصرف النظر عن محاولات التحيّل وانتحال الصفة واللهفة غير المبرّرة لدى البعض، فإنّ العبء الأكبر من الضغط يقع على مسؤولي الخطوط الأولى في العلاقة بالمواطنين، من عُمد ومعتمدين وولاة ومديرين جهويين ومسؤولين محلّيين وأمنيين، وحتى نوّاب الشعب. فهؤلاء لا يسعهم تلبية الطلبات لمحدودية الإمكانيات، ولا يمكنهم صدّ الجموع الواقفين على أبواب إداراتهم، وهم يعاينون بألم أوضاعهم المزرية البادية على وجوههم ومظاهرهم. وهذا وجه مغيّب في الحوار الإعلامي والسياسي، وربّما تُستغلّ سقطات بعض هؤلاء المسؤولين في التغطية عن حجم المشاكل والمتاعب والمصاعب التي تواجه أغلبهم يوميا.
وحتّى لا تكون أزمة كورونا الشجرة التي تخفي الغابة كما يقال، يجدر بنا التذكير في النظر إلى المستقبل بأنّه رغم ما تردّد في التحاليل أنّ لحظة 17 ديسمبر 2010 كانت لحظة اجتماعية بامتياز، وأنّ الغضب الاجتماعي أسقط نظام حكم بن علي وجعل الكرامة صنوا للحرية في مطالب الثورة، فقد استمرت الفوارق الاجتماعية بعد 2011 بين الجهات والفئات والأفراد. وقد أعاد التعثّر في معالجة الاستحقاقات اﻻﺟﺗﻣﺎﻋﯾﺔ، اﻟﺗﺷﻛﯾك ﻓﻲ ﺟدوى اﻟﻣكاسب السياسية في مسار الانتقال الديمقراطي. بل تمّ التأكيد مرارا على أنّه لا حظوظ للديمقراطية في ظلّ الخصاصة والاضطرابات الاجتماعية.
وها أنّ الحرب الطارئة على كوفيد 19 التي غيّرت الأولويات، واستدعت التفكير في التداعياته الاقتصادية والاجتماعية للكلفة الصحية، تجدّد الجدال حول الدور الاجتماعي للدولة. فقد بات لافتا رفع بعض الشعارات “الشعبوية” في خطابات الحكم أو المعارضة، في إسقاط الفوارق بين “الخاص” و”العمومي” والحديث على أنّ جميع المقدرات والمؤسسات “ملك للشعب وفي خدمته”، كما ألمح إلى ذلك رئيس الجمهورية ووزير السياحة ووزراء آخرون في حكومة الفخفاخ، كما تمّ التلويح باستعمال التسخير واعتماد مراسيم في التشريع لمعالجة الفوارق الاجتماعية الحادّة وفرض حدّ أدنى من العدالة الاجتماعية. وفي المقابل حذّرت بعض أوساط رجال الأعمال من مخاطر الضغط على المؤسسات أو عدم دعمها بما يكفي، أو التهديدات المبطّنة التي تستهدف المستثمرين وأصحاب الثروات، وأعربت عن مخاوفها من بعض خطابات أطراف معيّنة في الحكم.
وفي ظلّ هذا الصراع الخافت إلى حدّ الآن، وأمام السيناريوهات الكارثية للأوضاع الاقتصادية في العالم وفي بلادنا، فإنه لم يعد مقبولا غموض خيارات الحكومة وسياساته وأن يؤجل الائتلاف الحاكم، الإجابة عن بعض الأسئلة الحارقة ذات الأفق الاقتصادي والاجتماعي لحكومة الفخفاخ. فعلى سبيل الذكر لا الحصر ما الحلّ للمحافظة على مواطن الشغل بعد أزمة كورونا وخفض نسبة البطالة؟ وكيف السبيل للتعاطي مع عدد المعطّلين الذي سيزداد بعد أن كان خفضه أولوية؟ ما هي رؤية الحكومة للإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية المتأكدة؟ كيف سيتمّ خفض كتلة الأجور بالميزانية ونسبتها في مختلف الوزارات؟ وكيف سيكون التعاطي مع المؤسسات العمومية ذات الصبغة الانتاجية التي تعاني من الخسائر والديون؟ وما هي مصادر تمويل الإصلاحات؟ وما هي الخطط المرحلية للقضاء على الفساد ومحاربة الفقر؟ ما هي المشاريع التي ستظل مبرمجة للجهات المهمشة ولتفعيل التمييز الإيجابي في ظل التعديلات المحتملة في الميزانية؟ وما معنى الحوكمة الرشيدة؟ وكيف نقيس نجاحها في إرساء دولة عادلة وقوية؟ فأولوية الاهتمام بإطفاء الحريق، لا تعفينا من التفكير فيما بعد الحريق.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 153، تونس في 23 أفريل 2020 (نسخة إلكتونية فقط)
فراد والشعبأأأ
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25