النهضة قوّة ضامنة مع إنذار ودعوة للتدارك

باحت صناديق تشريعية 2019 بأسرارها لتكشف التوازنات البرلمانية الجديدة والمشهد السياسي القادم بمفاجآته وتعقيداته والآمال المعلّقة عليه. نهنئ الفائزين ونبارك لهم، ونرجو للبقية حظوظا أوفر في خدمة البلاد من مواقع أخرى. تقدّمت حركة النهضة العريقة على حزب قلب تونس الناشئ في نسبة الأصوات وعدد المقاعد، وكان انتصارها سياسيا ومعنويا، أفرح أنصارها وصعب تقبّله من بعض خصومها، فراحوا يبحثون في تراجع قاعدة ناخبيها، دون غيرها من المتنافسين. اختفت بعض الكيانات السياسية أو تكاد، وسقطت أسماء شخصيات ملأت البرلمان المنتهي ولايته ضجيجا، وصعدت كيانات جديدة وأسماء شخصيات لاقت ترحيبا وأخرى مثيرة للجدال. بدا المشهد البرلماني القادم متشظّيا كما سبقت التوقّعات، بما يخلق صعوبات غير خافية في تشكيل أغلبية حاكمة، ولم تصدق فرضيّة صعود المستقلين على حساب المتحزّبين، رغم ما تمّ من ترويج لها مقابل تبخيس للأحزاب.
لا شيء يبرّر التقليل من فوز النهضة في تشريعية 2019، بل التنغيص على فرحة أنصارها في بعض المنابر الإعلامية، غير مشاعر الكراهية وعدم التسليم بمقتضيات الديمقراطية. وصفه بعضهم ب”الانتصار بطعم الهزيمة”، وبلغ الأمر بالمعلّقة السياسية ميا القصوري، التي لم تستطع إخفاء حنقها على حركة النهضة، الذي بلغ منسوبا أقصى، خلال الأشهر الأخيرة، فوصفت ناخبي النهضة ب “االقطيع” و”العلالش” و”الحيوانات”، في اعتداء سافر على المخالفين وخروج على أخلاق المهنة وتجاوز للحدود وللقانون.
تمّ التركيز على تراجع عدد ناخبي النهضة من 2011 إلى 2019، دون وضع ذلك في سياقه ودون اعتبار حجم الاستهداف الإعلامي والتشويه الذي طال حركة النهضة. ولو حصلت النهضة على 100 مقعد وحلّت الثانية أو الثالثة لوصفوا ترتيبها بالهزيمة النكراء. وقد حاولوا من قبل إنكار فوزها ببلديات 2018 بجمع لا يستقيم لأصوات مئات القائمات المستقلة. كما قلّلوا من ترتيب مرشّح النهضة الأستاذ عبد الفتاح مورو ثالثا في الدور الأول للانتخابات الرئاسية، وبالمقابل أثنوا على شخصيات أخرى تأخّرت عنه في الترتيب.
لن تخفي أحقاد بعض الاصوات العالية في وسائل الإعلام، وحتى في الفضاء الافتراضي، حقيقة فوز النهضة في تشريعية 2019، وفي انتظار الإعلان النهائي عن النتائج، فإنّ كتلة النهضة كانت الأكبر بناء على النتائج الأولية، وهي مدعوة بمقتضى الدستور إلى قيادة الحكم وتشكيل الحكومة القادمة. وعلى قيادتها عدم التردّد في ذلك. غير أنّ الحقيقة الأخرى التي لا يجب أن تغيب عن نواب النهضة الجدد، وعن سائر قيادتها، أنّ ناخبيها من التونسيات والتونسيين، منحوها ثقتهم مجدّدا، مع إنذار معلن في الرئاسية والتشريعية، ودعوة إلى التدارك قبل فوات الأوان.
فعلى النهضة أن تستحضر تشكّيات الناخبين وغضبهم أحيانا وتطلعاتهم ومطالبهم أثناء الحملة الانتخابية. وعليها الوفاء بتعهداتها السياسية في تحمّل المسؤولية ونوعية التحالفات والصرامة في الحكم، والالتزام بوعودها في تحسين عيش الناس، ومحاربة الفساد والفقر. وعليها أيضا أن تستحضر تجربتها في الحكم بعد 2011 وبعد 2014، بإيجابياتها وسلبياتها ودروسها، بما لا يمنحها فرصا أخرى للخطا. فالتجديد للنهضة، رغم الاستهداف غير المسبوق لها، من خصوم في الداخل والخارج، عنوان سلامة المسار الديمقراطي في بلادنا ومصداقية صناديق الاقتراع. غير أّنّ هذا التجديد، لا تخفى سياقاته وشروطه.
فقد صوّت البعض للنهضة، من غير قاعدتها التقليدية، لتفادي الأسوأ، (تصويت الضرورة) وبوّؤوها مكانة الضامن لاستمرار المسار الديمقرطي وتحقيق أهداف الثورة في الحرية والكرامة، أمام ما تهدّد المسار من مخاطر قوى مضادة للثورة، بدت قريبة جدا من الفوز واختطاف الحكم والدولة مجدّدا. وصوّت للنهضة أيضا أنصار لها غاضبون على أدائها في الحكم، من زوايا مختلفة، وغاضبون على قياداتها المركزية والجهوية والمحلية، وهم يدركون أيضا مخاطر انتكاس المسار في حالة تراجع النهضة، لكنهم لم يخفوا التنبيه إلى أنها الفرصة الأخيرة للإصلاح وتعديل البوصلة وتحسين الأداء وتغيير المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية خاصة، نحو الأفضل. فكان فوز النهضة في المحصّلة، وحيازتها على ربع البرلمان تقريبا، لا يعكس قوة سياسية ضاربة، بقدر ما يرمز إلى قوة ضامنة مع إنذار ودعوة للتدارك.
لا يتّسع المجال لقراءة معمّقة في نتائج تشريعية 2019، وتحليل أسباب تقدّم البعض وتراجع أو اختفاء البعض الآخر، غير أنّ الدروس غير خافية في التقاط مكامن غضب الناخبين وتطلعاتهم. وعلى الصاعدين الجدد قبل غيرهم، الذين نرجو لهم التوفيق والسداد، أن يستخلصوا الدروس ممّن قبلهم، في أسباب تراجعهم إلى حدود الاندثار من المشهد البرلماني وربما السياسي. فليست الأصوات العالية في غير مواضعها، ومهاجمة الخصوم والافتراء عليهم، والفرقعات الإعلامية، طريقا سالكة في جلب الانتباه ونيل رضا الناخبين. وإذا كان من مزايا البرلمان والديمقراطية عموما، ترويض “الموتورين”، فإنّ من فراسة الناخبين وفطنتهم، شطب بعض الكيانات أو الشخصيات بعد استنفاذ فرصها، ولذلك تظل دورية الانتخابات وشفافيتها، أكبر ضمان لتكريس سيادة الشعب ومكافأة من يتقدمون له لنيل شرف المسؤولية في الحكم أو معاقبتهم.
لست متشائما، رغم تعقيدات المشهد البرلماني القادم وصعوباته، لأنّ التونسيين في غالبيتهم مجمعون على ما يريدون وما لا يريدون أيضا، وبرامج الأحزاب ووعودها متقاربة إلى حدّ التشابه، في تقدير الأولويات وتدارك مخاطر الاستغراق في المسار السياسي على حساب التحديات الاقتصادية والاجتماعية. لذلك توجد فرص حقيقية للالتقاء بين فرقاء، يجمعهم الحرص على استكمال تحقيق أهداف الثورة والقطع مع الفساد والاستبداد، على قاعدة برنامج وطني للإصلاح، وشراكة تعاقدية، تجسدها وثيقة معلنة يكون الشعب شاهدا عليها، وتتعهد بتطبقها حكومة، تُراعى فيها الكفاءة قبل المحاصصة، وتحظى بتزكية أغلبية نيابية ودعم قوى سياسية واجتماعية من خارج البرلمان، علاوة على مصداقية كافة أعضائها والقبول الشعبي لهم.
يبدو الاتّفاق على حكومة يتحمّل الحزب الفائز مسؤولية تشكيلها بالمواصفات التي ذكرنا غير مستبعد، متى كانت الخيارات واضحة والاستعدادات موجودة والاتصالات حسنة والمفاوضات ناجعة. فإذا تعذّر ذلك، فإنّ مصلحة البلاد ومصلحة حركة النهضة باعتبارها الحزب الفائز في الانتخابات، تظلّ في الإصرار على الوفاء للناخبين وعدم الخضوع للابتزازات مهما كانت. فموقع النهضة في المعارضة أو الدعوة إلى انتخابات سابقة لأوانها تظلّ حلولا محتملة، إذا تعذّرت الصيغ الدستورية الأخرى الممكنة.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 127، تونس في 10 أكتوبر 2019

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: