النبيّ العربيّ: خاتما للمرسلين ورحمة للعالمين

جاء في صحيحي البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  “أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلاّت، أمّهاتهم شتّى ودينهم واحد.” وللحديث صياغات أخرى بنفس المعنى. ومفاده أنّ الأنبياء عليهم السلام على اختلاف ما أُوحي إليهم من شرائع وتفاصيل دعواتهم، ينتسبون إلى دين واحد وهو دين الإسلام، ويدعون إلى عقيدة واحدة وهي توحيد الله تعالى وحسن عبادته، كما ينتسب الأبناء من أمّهات مختلفات إلى أب مشترك واحد. ومعنى هذا الحديث يخالف خطأ شائعا بين المسلمين وهو القول بأنّ الرسول محمد صلّى الله صلى الله عليه وسلم جاء بدين الإسلام. والصحيح أنّه ختم دين الإسلام الذي تعاقب المرسلون في بناء حلقاته. وحول هذا التدقيق نتوقّف في هذا المقال لتبيّن بعض دلالات الخاتميّة التي تجعل من النبي العربي محمد رحمة للعالمين.

تفيد آيات القرآن التي تعدّ المرجع الأساسي للمسلمين في سير الأنبياء وخاتمهم عليهم السلام، أنّ المرسلين على اختلاف أزمنهم وأماكنهم وأقوامهم يتفقون في أنّ مُرسلهم واحد وهو الله تعالى، الذي بعثهم أئمة للناس يخرجونهم من ضلال الشرك إلى هدى التوحيد، ومن سخف التفكير في تقليد الآباء والأجداد وعبادة ما لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضرّ إلى إعمال العقل وعبادة الله ربّ المخلوقات جميعا الذي لا شريك له في الخلق والملك والتسيير وإليه المصير. رسلا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويدعون إلى الفضيلة ومكارم الأخلاق. “وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ” .(الأنبياء/73)

ويدعو القرآن إلى الإيمان بسائر المرسلين دون تفريق بينهم في نبوّتهم. “وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا.” (النساء/ 152) ويوضّح أنّ دينهم واحد لا يجوز التنازع فيه والتفرّق بسببه. “شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ”.  (الشورى/ 13)

ومن رحمة الله تعالى بعباده أن جعل رسله يتعاقبون وكان الوحي عبر التاريخ مواكبــــــا لتطــــور وعـــي الإنســـان، حتى اكتماله ونضجه واستقلاله. “ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَىٰ كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ  فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ”. (المؤمنون/ 44). فقد كان الوحي مرشدا للإنسان في صيرورته على الأرض. وكان أنبياء الله عليهم السلام معلّمين للبشرية في ارتقائها وتحررها عبر العصور. حتى جاء الرسول الخاتم محمد صلّى الله عليه وسلم ليكون اللبنــة الأخيرة فــــي البنـــــاء النبــــوي. وجاء القــرآن ليعلــن استقـــــلال العقــــل وتوقّف الوحــــي نهائيــــا. ” الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا.” (المائدة/3)

فالإسلام من منظور القرآن هو دين الله تعالى الذي جاء به سائر المرسلين ممّن اصطفى الله تعالى من العالمين وجعلهم أئمة هادين مهتدين، إخوة من أمّهات شتّى  ودينهم واحد، تعاقبت رسالاتهم وتكاملت وكان بعضهم يصدّق بعضا، حتّى تمّ بناء صرح الإسلام العظيم، الذي اكتمل برسالة محمّد خاتم النبيئين.” إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ”. (آل عمران/19) “مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيما.” (الأحزاب/40)

وقد لخّص الرسول الخاتم دلالة الخاتميّة في أحاديث مشهورة على نحو قوله صلّى الله صلى الله عليه وسلم: “إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون هلاّ وضعت هذه اللبنة قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم الأنبياء” (رواه البخاري ومسلم) وقوله “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.” ( رواه مالك ) فقد اكتمل البناء النبوي وازدان بالرسول الخاتم (بكسر التاء أو فتحها) الذي شهد له الله تعالى بكمال أخلاقه.” وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ” (القلم/4)

كما جذّر القرآن الرسالة المحمدية في محيطها العربي الديني والتاريخي والرمزي، حين ربط الرسالة المحمدية برسالة إبراهيم الخليل عليه السلام الجدّ المشترك للرسالات الثلاثة الكبرى الأخيرة الموسوية والمسيحية والمحمدية وذكر أنّه أوّل المسلمين.”قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ” (الأنعام/ 162، 16) ومن خلال ردّ القرآن تسمية “المسلمين” إلى إبراهيم. وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ”. (الحجّ/78) ومن خلال خاصة فريضة الحج إلى بيت الله الحرام الذي أقام قواعده إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ولم تنقطع العرب عن الحج إليه، حتى في مراحل الشرك، منذ أذّن إبراهيم في الناس بالحج.

كان الرسل من قبل يُبعثون إلى أقوامهم خاصة، وأرسل الله محمدا للناس كافّة بشيرا ونذيرا. “وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون.” (سبأ/( 28  وقد استطاعت الفتوحات الإسلامية العسكرية والتجارية والثقافية أن تنقل الإسلام في صيغته المكتملة من جزيرة العرب التي كان لها شرف الاحتضان إلى أصقاع العالم، ليصبح الإسلام أحد الديانات الكبرى في العالم وتنتشر معه اللغة العربية (لغة القرآن) وليكون الرسول العربي الخاتم للرسالات النبوية أحد الشخصيات العظيمة في التاريخ.

علّم محمد صلّى الله صلى الله عليه وسلم العرب وكانت أوّل كلمات القرآن “اقرأ” وأخرجهم من الجاهلية ليجعل منهم أمة رائدة وخالدة. “هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” (الجمعة/2و3). كان القرآن نبوّة الرسول الخاتم ومعجزته ورسالته في آن واحد. وقد حفظه الله تعالى فانتشر بين الناس بالمشافهة والكتابة بما حفظه من التحريف. وهو نبع عظيم من المعاني المتجدّدة وكأنّه من كثرة تفاسيره والرغبة في تفاسير جديدة له يتنزّل على الناس مجدّدا في كل مرحلة. “قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا” (سورة الكهف/الآية 109) يدعو الإنسان إلى تدبّر معانيه، دون احتكار تأويله أو ادّعاء التطابق مع مراد الله تعالى منه. “وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ”. (آل عمران/7). ليكون القرآن بذلك هاديا للعقل لا وصيّا عليه.

دعت الرسالة المحمدية الناس كافة إلى المساواة والتعارف والتآخي والتعاون على البرّ والتقوى وإقامة العدل وحفظ الحياة والعقل والمال والنسل والإحسان إلى الجار وصلة الرحم ومحبّة الغير والشورى في تسيير الأمور وعبادة الله تعالى وحده والتقرب إليه بتحقيق صفاته الحسنى في النفس وفي المجتمع حتى تكون العبادة تقرّبا إلى الله من جهة القصد وطريقا إلى الكمال الذاتي والاجتماعي من جهة النتيجة. وبهذه المعاني والمقاصد وغيرها من تعاليم الإسلام السمحة وقيمه النبيلة يكون الرسول العربي الخاتم محمد صلّى الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين رحمة للعالمين.”وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.” (الأنبياء/ 107)

أحبّ الرسول الخاتم الناس فلم يبال بما أصابه في سبيل دعوتهم. كان حريصا على هدايتهم وعلى مصلحتهم، كريما متسامحا يردّ السيئة بالحسنة ويستغفر لصحابته وللمؤمنين والمؤمنات. ” لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيمفإن تولّوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم.” (التوبة/128و129) كان عنيدا في مواجهة أعدائه حتّى ردّ بغيهم ونصره الله تعالى عليهم وكان عفوّا عند المقدرة فقال يوم فتح مكة لمن قاتلوه وناصبوه العداء وكابروا في رفض الهداية “اذهبوا فأنتم الطلقاء.” وقد أحبّه أصحابه لما وجدوا فيه من لين المعاملة وقوّة الحجة والإقناع.”فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.” (آل عمران/159و160) فلم يتخلّوا عنه في حياته وواصلوا دعوته بعد وفاته صلّى الله صلى الله عليه وآله وسلّم.

محمد القوماني

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقال منشور بالعدد 98 من مجلة الإصلاح الإلكترونية – العدد الخاص برسول الله صلى الله عليه وسلم ـ بتريخ 25 ديسمبر 2015 ومنشور بجريدة الضمير (يومية تونسية)،العدد 838، 27 ديسمبر 2015.

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: