التفاعلات مع خطاب رئيس الجمهورية: حركية مجتمعية أم حرب ثقافية أهلية؟

 

جريدة الرأي العام، العدد 20، تونس في  24 أوت 2017

 

ما زال خطاب رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي ليوم 13 أوت 2017، فيما يتعلّق بمسألتي المساواة في الإرث وزواج التونسية من أجنبي غير مسلم، يثير جدالا وتفاعلات شملت مختلف الأوساط السياسية والحقوقية وفضاءات التواصل الاجتماعي وحتّى العائلات والمجالس الشعبية، لتمتدّ إلى خارج تونس، وتصبح مادّة للتحليل والحوار وأحيانا موضوعا للسجال في المنابر الإعلامية المختلفة. ونتوقّف هنا على طبيعة ردود الأفعال في مجملها ودلالاتها الفكرية والسياسية، لنتساءل هل كانت تعكس حركية مجتمعية نعتزّ بها؟ أم بدت أقرب إلى الحرب الثقافية الأهلية التي نحذّر منها ولا بدّ أن نضع حدّا لها؟

حركيّة مجتمعية وإشعاع خارجي

لا تنفكّ الشواهد تتعدّد وتتجدّد لتبرز أنّ تونس، على صغر حجمها الجغرافي والسكاني،  تأهلت لأدوار متقدمة في المنطقة والعالم،  بفضل عوامل مختلفة متصلة بشعبها وتاريخها، ومن أهمّها مسارها الثقافي والحضاري الخصب، وريادتها التاريخية في الإصلاح السياسي والاجتماعي، وتموقعها الجغرافي المتوسطي  وانفتاحها على أوروبا. وكانت ثورة الحرية والكرامة 2011، التي دشنت الربيع العربي في الديمقراطية، وصمدت في زلزال هزّ المنطقة بسبب ما فرضته تلك الثورة وما لاقته من أصداء وما بعثت به من رسائل، واحدة من العلامات المضيئة لتونس المتألقة داخليا والمشعّة خارجيا. وتعدّ تونس عربيا، مثالا يُحتذى في  ضمان حقوق المرأة وتعزيز مكانتها في المجتمع على طريق تمكينها ومساواتها بالرجل. ورغم اعتماد الملاحظين والدارسين لوضع المرأة في تونس، مؤشّرا هامّا على التنمية البشرية، وافتخار عامّة التونسيين بالمكاسب على هذا الصعيد، فإنّ إعلان رئيس الجمهورية، رغبته في مزيد تطوير التشريعات المتّصلة بالنّساء، سيما ما يتعلّق منها بمسألتي المساواة في الإرث وزواج التونسية من أجنبي غير مسلم، على طريق مزيد المساواة مواكبة لتطور المجتمع، ودعوته لفتح حوار في الموضوع، لم تلق استحسانا كافيا، وصدرت اعتراضات واسعة عليها. فمقابل الدعم المحدود الذي لاقته من بعض الأحزاب والجمعيات والشخصيات والمنابر الإعلامية، التي توصف بالنخبويّة، فإنّ الاعتراضات تبدو أكبر في أطر مماثلة وخاصة من قبل هيئات دينية مؤثرة مثل  مدرّسي جامعة الزيتونة ونقابة المساجد وخطباء الجمعة والجمعيات المدنية ذات الصلة، وفي أوساط شعبية عامة. ولا نبالغ إذا قلنا أنّ هذا الموضوع سجّل أسرع ردود الأفعال وأوسعها، وشكّل محور جدال غير مسبوق، بما يؤكد حيوية المجتمع التونسي وحركيّته التي استعادها بعد الثورة خاصّة. ولا نحتاج إلى استدلالات أكبر من ردود الأفعال المسجلة، لنستخلص الفارق النوعي بين سياقات وضع الاستقلال والتفاعلات مع إقرار مجلة الأحوال الشخصية، والسياقات الجديدة لما بعد الثورة في موضوع الحال. فتونس 2017 ليست تونس 1956 بالتأكيد. وممّا ذكّى الجدال وزاد الحركية المجتمعية الداخلية، التفاعلات التونسية المتباينة مع ردود الأفعال الخارجية عربيا وإسلاميا، والتي عزّزت إشعاع تونس، بصرف النظر عن طبيعتها.

حرب ثقافيّة أهليّة.

لا خلاف على أنّ الحرب الثقافية جزء من الحرب الشاملة العسكرية وغيرها. وهي مطلوبة ومحمودة إذا كانت ضدّ عدوّ خارجي بالطبع، على غرار المواقف من التجنيس ومن الحجاب ومن التعليم الزيتوني وغيرها زمن الحركة الوطنية التونسية. لكن أن تكون الحرب الثقافية أهليّة بين أهل البلد أو الثقافة الواحدة فهذه مشكلة كبرى وخطر جسيم. لأنّ الحرب الثقافية هنا قد تمهّد أو تذكّي الصراعات السياسية، لتنحرف بها إلى الحرب الأهلية المسلّحة المدمّرة. وهي في أدنى حالاتها تظلّ تهديدا للوحدة الوطنية والسلم الأهلية. ولا نبالغ إذا قلنا أنّ السجال الفكري في ظاهره، حول مسألة المساواة في الميراث وزواج المسلمة بغير المسلم، وموضوع تطوير التشريعات ذات الصلة بالنصّ الديني عامة، تجاوز في كثير من الأحيان حدود الاختلاف في الرأي والتأويل والاجتهاد، وهي وضعية عاديّة وصحيّة، إلى ميدان التكفير والتخوين والطعن في الوطنية والذمة، والشتيمة والضغينة. فالبعض يحتكرون الحداثة والتقدم والذود عن المساواة وحقوق الإنسان، ليشتموا مخالفيهم وينعتونهم بالظلامية والرجعية والإرهاب و”الداعشية” ويدعونهم حتّى إلى ترك البلاد إذا لم يرضوا ب”المساواة” كما تفصّل لهم…وآخرون يحتكرون تأويل الإسلام والذود عن الهوية والدين، ليتهموا مخالفيهم بالكفر والإلحاد في آيات الله والردّة ومخالفة صريح النصوص ومحاربة الله ورسوله والاجتهاد فيما لا حق لهم في الاجتهاد فيه والدعوة إلى الفتنة ومخالفة قواعد الدين المعلومة…وغيرها من الصيغ التي تحيل في مجملها على التكفير الممنوع بنصّ دستور 2014.

هذا التجاذب الحادّ في المسألة الدينية يُلقي بظلال أجواء الاستقطاب الأيديولوجي والثقافي الذي عرفته تونس بعد الثورة وكاد أن ينزلق بالبلاد إلى العنف ويعصف بالثورة أصلا. وظننّا أنه بفضل التوافق الواسع حول الدستور ومخرجات الحوار الوطني ومناخ التوافق السياسي قد تجاوزناه. لكن ها أنّ السجالات الجديدة المشار إليها،  تكشف أنّ الدستور لم يحسم مسألة الهوية وأن الخلاف ما زال قائما حول تأويل فصله الأول، الذي ذكّر به رئيس الجمهورية في خطابه، والذي ينصّ على أنّ “تونس دولة حرّة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها”. ورغم أنّ الفاصل شكلا يقرن تونس بالدولة، أي أن المقصود بالفصل الدولة التونسية، ورغم أن الضمير في “الجمهورية” لا يمكن أن يعود إلاّ على الدولة، فإنّ البعض مازالوا يصرّون على أن هاء الضمير في  “الإسلام” تعود على تونس الشعب وليس الدولة وأنها تصف حالة ولا تقر وضعا، ليتفصّوا من مقتضيات الانتماء الإسلامي الذي أكدته توطئة الدستور بالتعبير عن تمسك شعب تونس “بتعاليم الإسلام ومقاصده”. وليس التجاذب في تأويل الدستور وتأويل نصوص الإسلام والأجندات السياسية المخفية في السجالات الأخيرة، والتي نحت أحيانا إلى تراشق لفظي وسجال تونسي مصري أو مغاربي مشرقي في بعض المنابر هنا وهناك، ليس ذلك سوى استمرارا وعنوانا جديدا لخلاف قديم و”حربا أهلية غير معلنة” تحدث عنها برهان غليون في كتابه الذي نشره في ثمانينات القرن الماضي تحت عنوان “اغتيال العقل: أو محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية”، واجتهد مع مفكرين عرب آخرين من أجل وضع حدّ لها والتوصّل إلى رؤى مشتركة وإبداعية تتجاوز بنا تيه “العلمنة” و”الأسلمة” وثنائيات الفكر العربي المعاصر في التراث والحداثة.

في الاختلاف والتعايش

بعيدا عن أجواء الشحن الأيديولوجي والسياسي وأجندات الاستثمار في الاستقطاب الثنائي، (تاريخنا وتاريخهم، ودمنا ودمهم، واحنا شعب وهما شعب…) يمكن أن نسجّل دون عناء أنّ اختلاف الآراء في موضوع المساواة في الميراث وغيرها من مسائل التشريع ذات الصلة بالأسرة أساسا، تعود إلى نزعات محافظة وأخرى تحرّرية تشقّ مختلف المجتمعات والأوساط، ونلاحظ أثرها في قضية الحال بدرجات نسبية، في صفوف الحزب الواحد أو التيار الفكري الواحد. فقد سجلنا مؤيدين لتوجهات الرئيس أو معارضين له، بين الدستوريين أو الإسلاميين أو القوميين أو اليساريين أو غيرهم ممن لا تستوعبهم هذه التصنيفات. والخلافات هنا لا تعدو أن تكون تعبيرا عن مواقف وآراء تحكمها عوامل عديدة ليس المجال لشرحها.

لذلك نشدّد مرة أخرى أن من شروط نجاح الحوار في هذه المسألة وغيرها، أن يكفّ البعض عن احتكار الحداثة والتقدميّة، واختطاف البلد بالوصاية عليه تحت هذين العنوانين أوغيرهما. فقد تأكّد أنّ الحداثة حداثات، وأنّ التيارات الفكرية والسياسية الأساسية لا خلاف بينها حول ضرورات التحديث والتقدم، لكن قد تختلف الخلفيات والمقاربات. كما أنّه ليس من حقّ طرف من كان، بمقتضى دستور الثورة ومبادئ حقوق الإنسان، أن يحتكر تأويل نصوص الإسلام  أو يزعم الذود عنها، وأن يصادر حق غيره في إثارة حوار فكري أو الدعوة إلى مناقشة مسألة مهما كانت، فضلا على أن يكون ذلك رئيس الجمهورية نفسه. فالإسلام جامع ولا خلاف عليه، واختلاف التأويل مهما كان لا يطعن في العقيدة. وترحيل المسائل أو تجاهلها تحت أيّة ذريعة، لن يلغيها، كما أنّ القفز على الخلاف الحادّ حولها لن يساعد على حلّها.

محمد القوماني

L’image contient peut-être : 1 personne, texte

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: