الإسلاميون رقم صعب في المعادلة الإقليمية .. التسوية التاريخية أو تكرار الأخطاء
جريدة الرأي العام، العدد10، تونس في 08 جوان 2017.
أخذت العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي منعرجا خطيرا، يصعب التكهّن بمستقبلها وتأثيراتها، بعد قرار السعودية والإمارات والبحرين بدعم كبير من مصر، قطع العلاقات مع قطر وإعلان الحصار البرّي والبحري والجوي عليها، ممّا أثار ردود أفعال فورية متباينة في أهمّ عواصم العالم، اعتبارا لأهمية الدول المعنية وثقلها على أكثر من مستوى. ولئن ربطت بعض التحاليل ما يحصل بتداعيات المزاج السلبي بالمنطقة الذي خلّفته “قمّة ترامب” بالرياض خلال الأيام القليلة الماضية والتباين في السياسة الخارجية الآخذة بالاتساع بين قطر والدول المذكورة، لا سيما في علاقة بإيران وإسرائيل وليبيا، إضافة إلى إصرار قطر على المضيّ في خيارها السياسي الذي انتهجته منذ أواسط تسعينات القرن الماضي والمرموز إليه بخط “قناة الجزيرة” الذي لم يرُق لأغلب الأنظمة العربية، دون إغفال تداعيات ترتيبات حكم جيل جديد من القيادات بالدول الخليجية المعنيّة. لكن ما نودّ التوقّف عنده في هذا السياق هو آثار اختلاف المواقف من مشاركة الإسلاميين في العملية السياسية وفي الحكم أساسا، في الأزمة الحالية، بعد أزمة 2014 عقب الانقلاب على حكم مرسي وحظر جماعة الإخوان المسلمين بمصر وحلفائها من دول الخليج، وآفاق هذه المشاركة في ظلّ سعي البعض إلى أن تمتدّ تداعيات تلك الخلافات إلى بلدان أخرى من بينها تونس، التي تباينت فيها التصريحات تجاه ما يحصل.
دعوة إلى التهدئة .. والصلح خير
يظلّ قرار قطع العلاقات بين الدول موضوعا سياديا يعني من يتخذونه أساسا. ونقدّر أن الموقف الرسمي للخارجية التونسية المعلن والذي يلتزم الحياد ويرفض الاصطفاف وينأى عن مزيد تعميق الخلافات ويدعو إلى التهدئة والحوار والصلح بين الأشقاء، خدمة للمصالح العربية المشتركة وتفويتا للفرص على العدوّ، موقفا رصينا يسع عموم التوجهات الوطنية. ونودّ تناول موضوع مشاركة الإسلاميين من نفس الزاوية، بحثا عن المصالح العليا وتيسيرا لسبل المصالحة المتأكدة والتضامن المطلوب، بعيدا عن المناكفات الأيديولوجية والحزبية والخطابات الانفعالية والمتشنّجة، التي لا تفيد في هذا السياق خاصّة. إذ نحتاج في فهم ما يحصل والبحث عن آفاق لحلول مرضية إلى مقاربات مختلفة تماما عمّا تروّج له بعض الأوساط، وترتيب مختلف للأولويات، وتصنيفات فكرية وسياسية لا تستوعبها القوالب الحالية التي عفا عنها الزمن. بل صارت أحد معوّقات فهمنا قبل تفاهمنا.
تموقع ظرفيّ مستحقّ للإسلاميين.
لم يكن تقدّم الإسلاميين مصادفة، في أوّل انتخابات حرّة وتعدّدية بعد ثورات الربيع العربي، مقارنة ببقيّة التيارات الفكرية والسياسية التي ساهمت بدورها في النضالات التي أفضت إلى تلك الثورات. بل أتى تتويجا لمسار مخصوص لهذا التيّار الذي شكّل كبرى الحركات الشعبية خلال العقود الأخيرة، وكان أنصاره مطاردين في الداخل والخارج وعُرضة للإقصاء والسجن والتصفية الجسدية والهجرة القسرية. كما كان عنوان مواجهات للحكّام المستبدّين بالداخل وللمحتلّ الغاشم بفلسطين. فجاء انتخاب الإسلاميين اعترافا لهم بتضحياتهم، وجنيا لثمار حضورهم اللاّفت، وتعاطفا مع مِحنهم. ولن يكون الموقع الذي حازوه بهذا المعنى، سوى مرحلة، على غرار تيارات قبلهم رشحتها سياقات مختلفة لأدوار متقدمة.
سياسة الاستئصال كشفت حدودها.
حقّق الإسلاميّون بطولات وانتصارات هامّة على جميع الأصعدة رغم الأخطاء الفادحة أحيانا، وكسبوا تأييدا شعبيا متعاظما، في ظلّ القمع الذي شملهم مدّة عقود وحملات الدعاية المضادّة لهم. وكان انتخابهم أيضا إعلانا لفشل سياسات الاستئصال وإنهاء لمرحلة من الصراع مع الدولة والإقصاء السياسي، وانتصارا من جهة ثانية لخيار المشاركة والعمل السلمي، على جماعات العنف والإرهاب في هذا التيار العريض، والتي تحوّلت إلى أدوات لتشويه الإسلام وخدمة أجندات لا مصلحة للمسلمين فيها، وبما جعل الخطوط تتباين إلى حدّ القطيعة والعداوة.
الإسلاميون جدّدوا أنفسهم وطوّروا معجمهم.
انهزم “الحداثيون” في منافسة “الإسلاميين” في الانتخابات التي تلت الثورات مباشرة، لكن قيم الحداثة انتصرت. فالمدنيّة والمواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها من قيم الحداثة السياسية، اخترقت بوضوح خطاب التيار الإسلامي المشارك. بما يعني أنّ الأغلبية صوّتت لتمسكهم بالهوية الوطنية ولوعيهم بمتطلبات الحداثة أيضا. بما يجعل المصالحة التاريخية ممكنة جدا بين التيّارين. مصالحة يتجدّد فيها الفكر والوعي والممارسة بما يقتضيه تحديث المجتمع والدولة، ويكون فيها الإسلام الثقافي إطارا جامعا، تغتني منه جميع الأحزاب السياسية والتيارات الفكرية ولا تتنازع حوله ولا يحتكره طرف دون الآخرين.
وقد خطت حركة النهضة بتونس شوطا كبيرا على هذا الصعيد من خلال مخرجات مؤتمرها العاشر سنة 2016، والتي كان من أهمّها التخلّي عن نزعة الشمولية وتأكيد التخصّص السياسي ووضع لائحة فكرية جديدة وتثبيت خيار التوافق والمشاركة والعمل على مصالحة وطنية شاملة. وجعلت من تجربتها مثالا يُحتذى، على بقيّة الإسلاميين الاستفادة منه في تطوير أنفسهم.
مشاركة لا غنى عنها للإسلاميين الديمقراطيين.
تجاوز الإسلاميون نزعة “الأسلمة” التي نشأت ردّ فعل عن “العلمنة”، وغادروا مواقع الاحتجاج، إلى المشاركة في الإصلاح والبناء الديمقراطي للدولة، وخرجوا من “الإسلام السياسي” إلى “الإسلام الديمقراطي”، على غرار تجارب مشجّعة بالمغرب العربي. ف”النهضة الجديدة” بتونس و”العدالة والتنمية” بالمغرب على سيبل الذكر لا الحصر، مثالان ناجحان للتجدّد في الوعي والخطاب، والإسهام في الاستقرار السياسي والتداول السلمي على الحكم. ممّا جعلهما يحظيان باستحسان واسع في الداخل والخارج. خلافا لتجارب استمرار المواجهات وتعريض البلدان للحروب والدمار، على غرار ما يحصل ببعض دول المشرق العربي. وبات واضحا أن استهداف الإسلاميين الديمقراطيين الراغبين في المشاركة السياسية، والعودة إلى سياسات الاستئصال، استهداف في الأصل للديمقراطية نفسها وللاستقرار السياسي ولفرص التنمية والنهوض الحضاري للعالم الإسلامي، وتشجيع غير مباشر لنزعات العنف والإرهاب.
ففي ضوء استخلاصات انتكاستنا المتكرّرة في تحقيق أحلامنا في الديمقراطية، لا بديل على أن تكون المواطنة أساس الانتماء للدولة والضامن للمساواة بين المواطنين وقاعدة التعامل في العلاقة بين الحكّام والمحكومين، وبين المحكومين أنفسهم، على غرار ما تحقّق للأوروبيين وغيرهم. وأنّ مجهودا نظريّا وعمليّا، جامعا ومتأكّدا، لا بدّ أن يُبذل لتفعيل المواطنة المتعثّرة في ربوعنا، وفكّ الاشتباكات الأيديولوجية والسياسية، والقطع مع ثقافة الاستبداد، ليكون ذلك عنوانا وجسرا لتأسيس ديمقراطية “ما بعد العلمنة والأسلمة”.
نحو تسوية تاريخية ومستقبل عربي أفضل.
تُتهم دولة قطر بإيواء قيادات من حركة حماس الفلسطينية أو الإخوان المسلمين المصرية، ودعمها لثورات الربيع العربي ومشاركة الإسلاميين في الحكم. ويتبيّن مع مرور الوقت أنّ ذلك من أهم أسباب مقاطعتها وحصارها. والحال أنّ المملكة السعودية فعلت مثل ذلك في مرحلة سابقة وكانت تعدّه من فضائلها. ومهما اختلفت التقديرات من سياق إلى آخر، فإنّ ذلك لا يستوجب قطع العلاقات. ومن المهمّ أن يستحضر المقاطعون لقطر، ومن يدعم توجهاتهم في أيّ موقع، التكلفة الباهظة على الأوطان لسياسات استئصال الإسلاميين أو المعارضين عامة وصراعهم مع الدولة والتي لم يستفد منها سوى عدوهمّ. وأنّ مراجعات الإسلاميين وتجدّدهم وتصحيح أخطائهم، لن نجني ثمارها إلاّ إذا حصل ما يماثلها لدى خصومهم في الحكم أو خارجه.
ف”الإسلاميون الديمقراطيون” اليوم أفضل من يعبّر عن تيّار فكري واجتماعي يرى في الإسلام نبعا متجدّدا للعطاء وإغناء تطلعات الناس إلى الأفضل. وفي نفس الوقت تطلعا مشروعا لموقع أفضل للمسلمين يليق بهم في العالم على قاعدة التنوع والوحدة في آن. والإسلاميون رقم صعب في المعادلة الإقليمية تبيّن أنّه لا يمكن فسخه أو تجاهله. فلا فائدة في إضاعة الوقت والفرص مرّة أخرى، وتكرار الأخطاء بتبديد الجهد والمال فيما لا نفع فيه. وعلى كلّ طرف أن يراجع نفسه ويطوّر معاملته لغيره، عسانا نوحّد البوصلة ونجمع الكلمة. فليس عيبا من أخطؤوا، ولكنّ العيب أن نبني على الأخطاء أمجادا.