في خطاب 13 أوت 2018: أخطأ الرئيس المداخل والرسائل والوسائل

 

بدا خطاب رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي في ذكرى اليوم الوطني للمرأة يوم 13 أوت 2018 أقرب إلى الأجندة السياسية الشخصية، منه إلى استكمال مسار إصلاحي عريق وتلبية لتطلعات وطنية في هذه المرحلة. وكانت النتيجة عكسية على ما يبدو. فقد أغضب الرئيس الجميع على اختلاف مواقفهم في الموضوع، وبدا عليه تخبّط واضح وهو يحاول الإقناع بمبادرته ويسترضي أطرافا مختلفة، لأنّه أخطأ المداخل والرسائل والوسائل، كما نستجلي ذلك من خطابه في ملاحظات نوجزها في النقاط التالية:

 

1 ـ مهما اختلفت آراؤنا حول تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، فإنّ ذلك لا يجب أن يحجب عنّا الأجندة المجتمعية المتأكدة ببلادنا، على طريق مواصلة الإصلاحات، لتعزيز الحقوق عامّة وحقوق النساء خاصة، وتطوير التشريعات بمقتضى تطوّر مجتمعنا ومواكبة عصرنا. وهذا ما فسّر به  الرئيس دوافع اعتزامه تقديم مبادرة تشريعية لإقرار المساواة في الإرث، استكمالا لمسار المساواة  بين النساء والرجال، وإنفاذا لدستور 2014 الذي أقرّ المساواة بوضوح وائتمن رئيس الجمهورية على حفظه. لكن الخطاب الرئاسي في 2018 كما في 2017 نعدّه خطوة خاطئة في الاتجاه الصحيح.

 

2 ـ راوح الرئيس مكانه ولم يتقدم بمسار الحقوق الفردية والمساواة ما بين خطابي 2017 و2018. فقد اكتفى بإعلان عزمه على تقديم مبادرة تشريعية لإقرار المساواة في الإرث. وهو بذلك بقي في مستوى النية فقط، وتخلّى عمليا عن مضمون تقرير اللجنة التي شكلها للغرض، والذي توسّع في الموضوع واقترح مشروع “مجلة الحقوق والحريات الفردية” ومشروع “قانون أساسي يتعلق بالقضاء على التمييز ضدّ المرأة وبين الأطفال”. وهذا ما أغضب أوساطا واسعة رحبت بتقرير اللجنة وعلّقت آمالا على خطاب13 أوت 2018.

ومن جهة ثانية اختزل الرئيس واجبه الدستوري في تحقيق المساواة على موضوع الميراث وتجاهل مجالات حيوية أخرى على غرار تطلّع التونسيات والتونسيين إلى المساواة خاصة في تكافؤ الفرص وبين الجهات. وليست نتائج بعض المؤسسات التربوية بجهة القصرين في السنة  الدراسية الأخيرة سوى مثالا على ذلك.

 

3 ـ شدّد الرئيس على حرصه على تطبيق الدستور، وهذا أمر محمود، غير أنّه قفز في خطابه على توطئة الدستور التي عبرت عن “تمسك شعبنا بتعاليم الإسلام ومقاصده المتسمة بالتفتح والاعتدال”، والفصل الأول منه الذي ينصّ على علاقة الدولة بالإسلام بصيغة توافقية في 1959 و2014. وركز الرئيس خطابه على الفصل الثاني الذي ينصّ على مدنية الدولة نافيا أيّة علاقة للدستور والقوانين بالدين والقرآن.

وبذلك تراجع  الرئيس عن منحى خطابه في 13 أوت 2017  “تأسيسا للعقد المجتمعي التونسي بما لا يتنافى في شيء مع تعاليم الإسلام السمحة نصّا وروحا.” وتبنى تأويلا أحاديا للدستور وتجاهل أهمية الفصل الأول الذي ذكر أنّ “تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها.” ومثلما أنّ “الجمهورية نظامها” الذي أتبع  بضمير الهاء والذي لا يقبل التغيير، له أثر حُكميّ، فإنّ نفس ضمير الهاء في “الإسلام دينها” له أثر حُكميّ أيضا. وكما يعود نظام الجمهورية على الدولة يعود دين الإسلام أيضا. وهذا رأي آخر  تعزّزه التوطئة وفصول أخرى من الدستور تُقرأ في تكاملها وتُؤول كوحدة منسجمة كما ورد بالفصل 146. فعلى سبيل الذكر لا الحصر ما دلالة التنصيص على أنّ الدولة تعمل على “تأصيل الناشئة في هويتها العربية الإسلامية” بالفصل 39 وعلى القسم في الفصل 76 وعلى “مفتي الجمهورية التونسية” في الفصل 78؟ وما مصدر “الموانع الشرعية للزواج” غير القرآن، في مجلة الأحوال الشخصية التي يقرّ بها الشاهدان في عقد القران؟. وقد يخرق الرئيس الدستور فعلا إذا مضى في تجاهل هذه الفصول جميعا.

 

4 ـ  تبنّى رئيس الجمهورية أحد مقترحات اللجنة في التخيير بين القسمة بالمساواة أو القسمة بالشريعة وفق قاعدة “للذكر مثل حظ الأنثيين”، وفي هذا  التصريح مخاطر ورسائل بالغة الخطورة. فهو اعتماد لنظام مزدوج ومسّ من وحدة التشريع التي تعدّ من المكاسب. وهو انتكاسة وعودة إلى التقابل بين المدني والديني. وهو تخيير يجعل “القانون الوضعيّ” في تعارض مع “شريعة الله تعالى”، وفي ذلك إحراج للمؤمنين، ورسالة سلبية تدعم ادّعاء المتشدّدين والإرهابيين بأنّ نظام الحكم يخالف الإسلام، فضلا عمّا في ذلك من إساءة لصورة تونس في العالم الإسلامي وجعلها عرضة للانتقاد والتشهير.

هذا إضافة إلى ما في مقترح التخيير من محاولة للتوفيق في الظاهر وتوحيد المجتمع، وما فيه من مراوغات تكتيكية في الحقيقة. فالمقترح كما جاء بالصفحة 182 من التقرير يجعل القسمة بالمساواة مبدأ والقسمة المعتمدة الآن استثناء. لأنها مشروطة باختيار صريح لها من المورّث “في قائم حياته”. أي أنّ المقترح يفرض المساواة في الإرث قانونا، لأنّه لا معنى للإرث إلاّ بعد هلاك صاحب التركة، وأمّا الوصيّة في الحياة فلا تندرج ضمن نظام الإرث. فضلا على أن تصرّف الحيّ في أمواله من حقوقه المكفولة في القانون الحالي.

وإذا كانت المساواة قانونا من واجب الدولة كما ورد بنص الخطاب مكتوبا والقسمة بالشريعة وفق قاعدة “للذكر مثل حظ الأنثيين” من باب حرية  الفرد، فلماذا لا نعمّم ذلك على مسائل أخرى مثل أصناف الزواج وتعدّد الزوجات وغير ذلك مما يفتح الارتداد وضرب المكاسب.

 

5 ـ أثنى الرئيس على فوائد التعامل مع حركة النهضة في السنوات السابقة وذكّر بدورها المحوري في المشهد السياسي وفي البرلمان، غير أنّه عمد إلى إحراجها وعدم التوافق معها عمليا في خطابه ومبادرته. فقد ذكر أن النهضة رفضت في رسالتها إليه تغيير نظام المواريث لكنها قبلت بمسائل أخرى في التقرير. وأفادت تصريحات مستشارته سعيد قراش ومصادر من النهضة، أنّ الحركة تدعم مقترح وضع   مشروع “مجلة الحقوق والحريات الفردية” التي تبدو أوكد في هذه المرحلة ومفيدة لدعم المكاسب مهما   أثارت من اختلافات في بعض تفاصيلها. فهل كانت الأجندة الانتخابية للباجي وراء اختبار النهضة في “مدنيتها” بالموافقة على مبادرة المساواة في الإرث وإحراجها في مرجعيتها الإسلامية وقاعدتها الانتخابية المحافظة؟ وهل يحقّ للرئيس أن يكون حكما في مدنيّة حزب النهضة؟ وهل تقسيم الإرث أصلا مشمولا بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان؟ وهل يريد الباجي أن يسجل في التاريخ أنه الرئيس الذي اقترح المساواة في الإرث وهو ما لم يفعله سلفه الحبيب بورقيبة؟  بصرف النظر عن إقرار المشروع في البرلمان أو إسقاطه. ألم يكن أجدر بالرئيس الباجي أن يبحث عن أوسع توافق مع حزب النهضة ومع أنصار التقرير فيكتفي بأن يكون وراء وضع  “مجلة الحقوق والحريات الفردية”  بعد أن كان المرحوم بورقيبة وراء وضع “مجلة الأحوال الشخصية”؟

 

6 ـ كثيرا ما يستحضر الرئيس الباجي وأعضاء اللجنة والمساندون لهم إقرار مجلة الأحوال الشخصية إبّان الاستقلال وجرأتها التشريعية وآثارها المجتمعية الإيجابية، ويتطلّعون إلى الاحتذاء بها. ويغفلون على أنّ بورقيبة  ورفاقه استندوا إلى مسودة سابقة للشيخ الزيتوني عبد العزيز جعيط وإلى ميراث الحركة الإصلاحية التونسية وبحثوا في مختلف المذاهب الفقهية الإسلامية عن مستندات لتأصيل ما ذهبوا إليه واحتموا برموز من علماء الزيتونة للإقناع، وتلك من العوامل المساعدة على تمرير المجلّة. أما الباجي فاستند إلى أعضاء لجنة  الحريات الفردية والمساواة، المحترمين في اختصاصاتهم ومراتبهم العلمية، لكنهم  ليسوا قامات علمية ولا شخصيات اعتبارية جامعة ذات الوزن والإشعاع والمصداقية، مّمن يُعتدّ بهم أو يعوّل عليهم في الإقناع بالتوجهات الإصلاحية المزعومة في تقريرهم ولا في مشاريع القوانين المقترحة من قبلهم، فضلا عن افتقاد اللجنة للتوازن في تركيبتها، وتلك أيضا من الأخطاء في الوسائل.

 

لا تزال أمام رئيس الجمهورية فرص للتدارك. بالتريّث في مبادرته التي يعتزم تقديمها وفي جعل النقاش مفتوحا في الحريات الفردية وفي المساواة وتخيّر أوضاع أفضل لجمع الكلمة حول مشاريع تطوير قوانين تدعم الأجندة المجتمعية الإصلاحية وتوحّد التونسيين ولا تفرّقهم.

 

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 70، تونس في 16 أوت  2018.

https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/37562877_2062840137073093_7485211107309649920_n.jpg?_nc_cat=0&oh=db7d8834f3a0816c89cd330b4d05f16f&oe=5BFA8310

 

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: