حين يتكلّم الناجون من كارثة عمدون

       كان مرور بعض الناجين من كارثة عمدون أمام لجنة التحقيق البرلمانية في الموضوع للاستماع إليهم، وظهور بعضهم في منابر إعلامية خلال الأيام الأخيرة، منعرجا في مسار عمل اللجنة وفي كشف حجم تقصير مؤسسات الدولة وفي طرح مزيد الأسئلة حول السرديات المتداولة حول الفاجعة. وربما يصحّ القول بأنّ الاهتمام بعدد المتوفّين الذي بلغ الثلاثين رحمهم الله تعالى، قد غطّى على العدد القليل من الناجين (14) الذين نتمنى لهم الشفاء العاجل، والذين كاد ينحصر الاهتمام بهم في عائلاتهم القريبة ممّا ضاعف معاناتهم. وإذا كان الأمر قد قُضي في حقّ المتوفّين، ولم يعد ممكنا أن يلحقهم شيء غير الدعاء لهم بالرحمة، فإنّ اللوم والمحاسبة والعناية و وغيرها من صيغ التدارك لازالت ممكنة ومطلوبة بالنسبة للناجين.

       لا نرى مبالغة في وصف حادث مرور عمدون يوم 1 ديسمبر 2019 بالكارثة الوطنية أو الفاجعة، اعتبارا لعدد الهالكين وأعمارهم  وطبيعة الرحلة. ولعلّ مقارنة عددي المتوفّين بالمصابين تعطي وحدها دلالة استخدامنا لوصف الناجين وليس المصابين. كما أنّ معاينة المكان ووضع الحافلة المنكوبة، تزيد في الاحتفاء بهؤلاء الناجين الذين وهبهم الله حياة جديدة وأسعد عائلاتهم بهم، رغم الإصابات البليغة والأضرار الفادحة التي لحقت بأغلبهم. وهذا ما يزيد في متطلبات التعامل الإيجابي الاستثنائي مع معطيات هذه الكارثة من قبل السلطات، خلافا لما تفيده الوقائع إلى حدّ الآن.

       تحدّث أمام اللجنة الشاب وسيم (19سنة) من شبدة، الذي غادر المستشفى بعد أن استفاق من غيبوبة استمرت نحو شهر. وأكّد أن الرحلة كانت عادية وأنهم توقفوا في مناسبتين قبل الكارثة. ونفى ما تمّ تداوله من أنّ سائق الحافلة قد دعا ركابها إلى النطق بالشهادة بعد فقدان السيطرة عليها. وهذه عيّنة من تصريحات قد لا تتطابق مع تصريحات زملاء آخرين له في الرحلة. فموقع الركوب والحالة الذهنية لحظة الفاجعة والقدرة على تذكّر التفاصيل  وغيرها من العوامل لا تخفى تأثيراتها في الشهادة. فقد تحدّثت أميمة من المروج، التي نجح الأطباء في لملمة جسمها المتضرر في أماكن عدّة،  والتي استفاقت من غيبوبتها بعد نحو شهر ونصف، فبدت فاقدة للذاكرة تماما وكان آخر عهدها بالحادث وشك انقلاب الحافلة.

       تحدّث أهالي الناجين بحرقة أكبر. فهم من عاينوا المصاعب ووصلوا الليل بالنهار في رعاية أبنائهم. أشارت أمّ وسيم أنه يتكلم حول الحادث لأول مرة وهو لا يغادر المنزل منذ عودته من المستشفى ويعاني من العزلة والاضطراب النفسي ولا يجد أية إحاطة في الغرض. وأنّ أملها حاليا أن يستعيد ابنها حياته العادية ويشفى من المخلفات النفسية للفاجعة. أما والدة أميمة فقد شكرت الإطار الطبي وشبه الطبي الذين بذلوا قصارى الجهد في إنقاذ ابنتها. لكنها أشارت إلى أن العائلة كانت تشتري كل مستلزمات العلاج وأنها دفعت فاتورة تفوق الخمسة آلاف دينار عند المغادرة. وأنها تكفلت بالإحاطة النفسية لابنتها على الحساب الخاص.

       لا تهمّ التفاصيل في هذا السياق. فما نروم تبليغه هو أنّ موضوع وجع عائلات الضحايا المضاعف وتقصير الدولة الفاضح، الذي تناولناه في مقال سابق، يستوجب  تصحيحا وتداركا بعد أن تكلّم الناجون وكشفوا عن حاجة ماسّة للإحاطة النفسية، تبدو غير عزيزة عن مؤسسات الدولة، التي قصّرت في الإسعاف وعلاج المصابين بسبب ضعف التجهيزات أو انعدامها، والتأخر في الزمن المطلوب لنجاعة التدخلات الطبية.

       ومن اللافت في الاستماعات الأخيرة، أنّ شركة تأمين الحافلة المنكوبة، عبّرت في شخص ممثلها القانوني عن استعدادها لمساعدة العائلات التي يعلم الجميع أنها من الأوساط الفقيرة في أغلبها، بما يقتضيه القانون من تكفل بالعلاج، أو بما يقتضيه الفاجعة والاعتبارات الاجتماعية من مرونة في دفع مسبقات على التعويض أو غيرها من الصيغ. لكن العجيب أنّ الشركة بعد أكثر من شهرين لم تتلق التقرير الأمني الأولي حول الحادث، وهو شرط لازم لمباشرة الملف مع المعنيين.

       نحن معشر التونسيين نستحق التحية لما نبديه من فزع وانشغال في الملمّات والمصائب، التي تأخذ صدى إعلاميا خاصة، لكن نحتاج إلى معالجة آفة النسيان التي يبدو وقعها أكبر علينا. فسرعان ما ننسى المواضيع فلا نتابعها أو نستبدلها بغيرها. وما أكثر مصائبنا للأسف. وقد نجحث لجنة التحقيق البرلمانية في فاجعة عمدون إلى حدّ الآن في إبقاء الملف مفتوحا إعلاميا على الأقلّ، وفي متابعة أوضاع العائلات والمصابين، وفي استحثاث بعض المؤسسات على تدارك التفصير. ويبقى تضافر جهود عديد الجهات مطلوبا لبلوغ الأهداف.

       تعهّدت لجنة التحقيق البرلمانية في فاجعة عمدون بأن تقدم تقريرها للجلسة العامة لمجلس نواب الشعب بعد ثلاثة أشهر وتضعه على ذمة الرأي العام في 19 مارس القادم على الأقصى.  ويظلّ الأمل معقودا في أن تكون هذه اللجنة استثناء وتصحيحا للقاعدة وأن تفي بوعودها في كشف ملابسات الحادث وتسليط الضوء على متطلبات السلامة المرورية والخدمات الطبية أساسا وتحميل المسؤولية المحتملة في أيّ تقصير  ورفع التوصيات الضرورية في الغرض. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

محمد القوماني

*مقال منشور بالعدد 143 من أسبوعية “الرأي العام”، تونس في06 فيفري 2020.

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: