حكومة الجملي تحت الضغط العالي

       بعد كلّ العراقيل التي وُضعت لمنع تشكّلها ومناورات إضاعة الوقت على المكلّف بها، تتعرّض حكومة السيد الحبيب جملي منذ الإعلان عنها يوم الخميس 02 جانفي 2020، لأقصى حملات التشكيك في أعضائها ولأعلى مستويات الضغط  لإفشال حصولها على التزكية البرلمانية في جلسة نيل الثقة غدا الجمعة 10 جانفي 2020. وتعدّ الجلسات الماراطونية خلال الأيام الأخيرة للمصالحة بين الخصمين يوسف الشاهد ونبيل القروي، أهمّ مساعي الساعات الأخيرة لإعادة خلط الأوراق والتأثير في اتجاهات التصويت وإسقاط حكومة الجملي، للمرور إلى الصيغة الدستورية الثانية  بتكليف رئيس الجمهورية للشخصية الأقدر التي يظنّ الشاهد أنه الأولى بها ويعمل على تحقيق ذلك مع حزبه وحلفائه. وبالتوازي يعقد الجملي جلسات مكثّفة مع ممثّلي الأحزاب والكتل البرلمانية، وتبذل حركة النهضة جهدا محموما لضمان الأصوات الكافية لتمرير الحكومة.

       تلقى تشكيلة حكومة الجملي تحفظات واعتراضات من جهات عديدة ومن زوايا مختلفة، تتصل بالمقاييس المعلنة في اختيار الأعضاء المرشحين، سيما الكفاءة والنزاهة والاستقلالية، علاوة على التوازنات الجهوية. ومن أطرف ما يُسجّل في انتقاد الحكومة المقترحة أن يعتبرها البعض “نهضوية” أو “تحالفا غير معلن بين النهضة وقلب تونس” ويقول البعض الآخر من قيادات وأنصار حزبي النهضة وقلب تونس أنهم لم “يُستشاروا بشأنها” أو لم يتمّ إعلامهم بها أصلا قبل تقديمها رسميا، بل هي “تستبعدهم” و”تقصيهم” بمقياس الانتماء. ومن مفارقات تقييم الحكومة المقترحة أن يقول البعض أنها “تقصي الدساترة” وينعتها آخرون بأنها “تستعيد المنظومة القديمة في الحكم”.

       وإزاء هذا التباعد في التقييم والتصنيف، وهذا الجهد السياسي والإعلامي غير الخافيين في استهداف الجملي وفريقه، واستنادا إلى مستجدات الأيام والساعات الأخيرة، يبدو مستقبل الحكومة المقترحة غامضا في جلسة نيل الثقة. فالاختلافات حول الموقف من حكومة الكفاءات المستقلة ليست فقط بين الأحزاب والكتل البرلمانية،بل داخلها أيضا، ودون استثناء. ولعلّ احتفاظ التصويت بأسراره وعدم الجزم بالنتائج قبل إحصاء الأصوات بات من خصوصيات التجربة الديمقراطية التونسية وشفافيتها.

       ولتدقيق المواقف المختلفة، نحتاج في كل مرة لاستحضار سياقات تشكيل هذه الحكومة. فليس السيد الحبيب الجملي أفضل من يمكن أن يقود حكومة هذه المرحلة في ضوء التحديات المعلومة والنتائج المعلنة لانتخابات 2019. وليس فريقه أفضل الكفاءات على الإطلاق. وإنّما هي حكومة الأمر الواقع التي فرضها المسار والسياقات. فقد عرضت حركة النهضة منذ إعلان النتائج على شركائها المُحتملين، تشكيل ائتلاف حزبي للحكم في ضوء نتائج الانتخابات يقوده رئيس حركة النهضة أو أحد قياداتها البارزة من المقتدرين على ذلك، لكنها جوبهت بالصدّ واشتراط عدم ترؤسها للحكومة. وتلك إضافة سريالية أخرى في الديمقراطية التونسية.

       فقد فازت حركة النهضة بالمرتبة الأولى في تشريعية 2019 بما يمنحها دستوريا حقّ تعيين رئيس الحكومة وتشكيلها، وإن لم تكن أغلبية. وخلافا لكل التجارب الديمقراطية في العالم رفضت الأحزاب الممثلة في البرلمان، أن يكون رئيس الحكومة المكلّف من قيادات النهضة. فكان الاضطرار إلى تعيين شخصية مستقلة وهو السيد الحبيب الجملي. وقد دعته بعض الأحزاب، على غرار قلب تونس، بوضوح ومنذ البداية، إلى تشكيل حكومة كفاءات غير متحزّبة. وبعد تجربة حوار طويلة “بصعوباتها وتقلباتها” مع الأحزاب، اضطرّ الجملي في النهاية إلى إعلان قراره بتشكيل “حكومة كفاءات وطنية مستقلة عن كلّ الأحزاب”، محالفا بذلك رغبة النهضة التي كلفته. وكان عليه أن يراعي توازنات ما في تركيبة حكومته، ليضمن لها التزكية بالبرلمان. وفضلا على أنّ إرضاء الناس غاية لا تُدرك، فإنّ   اجتهادات الجملي لم تكن موفّقة في بعض الجوانب، وقد زادت بعض أخطائه الاتصالية وقلة خبرته في نسج العلاقات السياسية، في خلق صعوبات إضافية أمام قبول حكومته.

       سيصوّت النواب في جلسة منح الثقة لحكومة الجملي بالجملة وليس بالتفصيل. فحسب مقتضيات الدستور والنظام الداخلي للمجلس ” يتمّ التصويت على الثقة بتصويت وحيد على كامل أعضاء الحكومة والمهمة المسندة لكل عضو.” وتتحقق الأغلبة المطلقة المطلوبة ب109 صوتا على الأقل. ولئن بدا نيل الثقة من عدمه غير محسوم كما أشرنا، فإنّ عناصر عديدة أخرى غير التشكيلة قد تكون مؤثّرة في التصويت.

       فكلمة الجملي في العرض الموجز لبرنامج حكومته وتقديم أعضائها في مفتتح الجلسة العامة، ومدى توفّقه في الإقناع بالأولويات والإجراءات العاجلة ورؤيته للمرحلة وللحوكمة المطلوبة مهمة جدا في اتجاهات الحوار والتصويت لاحقا. كما أنّ استحضار الظرفية المحلية الصعبة،  والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، والارتخاء في الإدارة وضعف أداء المرفق العمومي، وتحديات الوضع الإقليمي وخاصة بالجارة ليبيا، التي  تُدقّ بها طبول الحرب بين دول بالوكالة، ودعوة أطراف سياسية واجتماعية عديدة إلى التعجيل بتحمل الحكومة الجديدة لمسؤولياتها، وأهمها حث رئيس الجمهورية قيس سعيد على ذلك في لقاءاته الأخيرة،  كلّها عناصر إيجابية لصالج الحبيب الجملي إذا أحسن توظيفها. فلتمر الحكومة ولكل حادث حديث.

محمد القوماني

*مقال منشور بالعدد 139 من أسبوعية “الرأي العام”، تونس في 09 جانفي 2020.

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: