بمناسبة الذكرى 18 لوفاة بورقيبة: في حاجة دولة الاستقلال إلى قيم الثورة

مرّة أخرى تحلّ ذكرى وفاة بورقيبة رحمه الله تعالى يوم 6 أفريل، وسط جدال حادّ حول شخصيّته ودوره الوطني في تاريخ تونس المعاصر. فبعد 62 عاما من الاستقلال و7 سنوات من الثورة، لا يزال التجاذب حادّا بين من يحاولون الترويج لصورة “تقديسية” للزعيم التاريخي المُبرّأ من الأخطاء والعيوب، الذي قاد الكفاح الوطني وأنجز الاستقلال وبنى الدولة الحديثة، ومن يحاولون الترويج لصورة “مشيطنة” لبورقيبة، صنيعة الاستعمار، الذي تآمر على الزعماء الوطنيين ووقّع صفقة استقلال منقوص، تخدم مصالح فرنسا في تونس بعد رحيل عساكرها، ولا يرون في حكمه غير الأخطاء وينكرون عليه أيّة إنجازات. وليس الجدال مؤخرا بين السيدة سهام بن سدرين، رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، وبين مجموعة المؤرخين التونسيين، من الجامعيين، حول ما عُرف بالوثائق المسرّبة عن اتفاقية الاستقلال وعن امتيازات فرنسية في استغلال الثروات التونسية، سوى صدى لذلك التجاذب القديم المتجدّد. ولا تبدو الأزمة البرلمانية الأخيرة الناجمة عن التباين في تحديد مستقبل العدالة الانتقالية، والاستقطاب مجدّدا بين “أنصار الدولة القديمة” و”أنصار الثورة” سوى حلقة أخرى في هذا التجاذب. وكم تبدو تونس بحاجة أكثر من أيّ وقت مضى إلى الجمع بين مكاسب دولة الاستقلال وقيم ثورة الحرية والكرامة، وإلى وحدة وطنية، لتأمين مسار انتقال ديمقراطي يبقى هشّا في غياب مصالحة وطنية شاملة ومتأكّدة.

ليست التصريحات الأخيرة حول بورقيبة وفرنسا والاستقلال جديدة على الساحة التونسية، فهي معلومة ومتداولة منذ عقود. وليست كما يدّعي أصحابها خدمة للحقيقة أو العلم، بل انخراط غير خاف في الصراع السياسي الدائر. وليست خلافا حول التاريخ، بقدر ما هي تموقع في معارك الحاضر. وليس التجاذب في هذا السياق، سوى مثالا عن عقل سياسي عربي يئنّ تحت وطأة التراث، ويستدعي التاريخ بطريقة انتقائية، ليذكّي معارك الحاضر المغلوطة للأسف، فيظلّ على هامش الحداثة السياسية التي يبدو أنّ من شروط تحقّقها التحرّر من وطأة التراث والماضي، كما انتهت إلى ذلك أهم مراجعات الفكر العربي المعاصر واستخلاصاته. ويكفي للاستدلال على ما نقول أن نستحضر أمثلة دالّة في تغيّر الموقف من بورقيبة انطلاقا من مقتضيات الحاضر وليس لاكتشاف معطيات جديدة حول الماضي.

فالإسلاميون ممثّلين في حركة النهضة أساسا، راجعوا موقفهم السلبي من بورقيبة وطوّروا خطابهم في هذا الاتجاه في نوع من “المصالحة”، وذلك في سياق تصحيح العلاقة بالدستوريين وبعض النخب التونسية، انطلقت قبل الثورة، وتسارعت وتكثّفت في سياق خيار “التوافق” خلال السنوات الأخيرة، بعد لقاء باريس الشهير بين الزعيمين الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي في شهر أوت من سنة 2013. واليساريون والليبراليون الذين اختلفوا مع بورقيبة وخاضوا صراعا معه خلال حكمه، باتوا أحرص على الدفاع عن “البورقيبية” اليوم، في سياق غير خاف من الصراع الجديد مع الإسلاميين، العائدين بقوة إلى المشهد السياسي بعد الثورة. ومن تحمّسوا للتوافق بين حزبي النداء والنهضة حاولوا التنظير لذلك من خلال الحديث عن المرحوم عبد العزيز الثعالبي بصفته “جدّا مشتركا” للعائلتين الدستورية والإسلامية. ويبقى وزير أملاك الدولة الأستاذ مبروك كورشيد مثالا بالغ الدلالة في هذا السياق. فهو القومي العربي الذي انبرى بعد الثورة محاميا عن اليوسفيين مهاجما لبورقيبة ومتّهما له بتصفية الوطنيين وعلى رأسهم الزعيم صالح بن يوسف رحمه الله، ومتصدّيا للسيد الباجي قايد السبسي، البورقيبي العائد إلى الساحة السياسية بعد الثورة. ومن بعد عهد غير طويل، ينقلب السيد كورشيد إلى مساند لسي الباجي وعضوا بحكومة الوحدة الوطنية ومرشّحا لتعزيز قيادة حزب نداء تونس وريث حزب بورقيبة. وهكذا يعيد الحاضر ترتيب الماضي وليس العكس، ويحدّد التموقع السياسي في المشهد المواقف من التاريخ. ولم يجانب الصواب من قال أنّ ” التاريخ يبرّر كل ما نريد تبريره”.

ونحن إذ نستحضر الزعيم بورقيبة في الذكرى الثامنة عشر لوفاته، في ظلّ مشهد سياسي متوتّر ومنقسم حول العدالة الانتقالية، نرى أنُه لا جدوى من مناكفات جديدة حول الماضي، لا تخدم كشف الحقيقة ولا إعادة بناء الذاكرة الوطنية، وأنّ الأهمّ من ذلك أن نتقدّم عمليّا في تحقيق مصالحة وطنية متأكدة، نعدَها شرطا لا فكاك منه للتصالح مع ماضينا ومع رموزنا الوطنية. فبورقيبة فرض نفسه زعيما للحركة الوطنية ورئيسا مؤسسا للدولة الوطنية، ولن تستطيع أيّة مناورات سياسية مهما كان حجمها وأيّة دعاية مهما كان الواقفون وراءها أن تنال من هذه الصورة. فقد تأكّد دوره البارز في توحيد الحركة الوطنية وقيادتها بذكاء إلى تحقيق هدفها في الاستقلال، وإرساء قواعد دولة عصرية والوصول بتونس في فترة حكمه إلى مستويات متقدمة في التعليم والصحة والبنية التحتية وتحرير المرأة وتحقيق التنمية، بما حاز على رضا الشعب في الداخل وبما نال استحسان المتابعين في الخارج. لكن في المقابل لن يستطيع المدافعون عن بورقيبة إنكار الحقائق الدامغة في النهج السياسي الاستبدادي الذي سلكه في حكمه، بتصفيته خصومه وإقصائهم من المشهد، سواء من رفاق دربه أو من مخالفيه لاحقا من القوميين والماركسيين والإسلاميين وغيرهم. إضافة إلى إفراغه مكسب النظام الجمهوري من محتواه بفرض رئاسة له مدى الحياة، بعد استيفائه لعدد الدورات التي أتاحها له دستور الاستقلال (1959).

فدولة الاستقلال التي قاد بناءها بورقيبة وواصل قيادتها الدستوريون حقّقت مكاسب لا ينكرها إلاّ جاحد أو جاهل، لكنّها للأسف دولة انبنت على الإلحاق الثقافي والاستبداد والحكم الفردي والمركزية والتفاوت بين الجهات، وكانت تلك أهمّ عناوين معارضة حكم بورقيبة والحزب الدستوري على مدى عقود، من قبل عائلات فكرية وسياسية مختلفة، ليتراكم النضال ويتعدّد الضحايا، حتَى كانت ثورة الحرية والكرامة سنة 2011. وإذا كان من فضائل الثورة التونسية نهجها السلمي، فإنّ من خصائص تجربة الانتقال الديمقراطي، التي أعطتها فرصا استثنائية للنجاح، خيار المصالحة والتوافق في مقابل نزعات الانتقام والإقصاء. ومن شروط استكمال هذا الخيار واستقراره أن تنفتح دولة الاستقلال على الطاقات التي عانت من الإقصاء والتهميش، وأن تسري دماء جديدة في الحكم مُشبعة بقيم الثورة ووفيّة لأهدافها، حتّى تصحّح الدولة مسارها دون قطيعة أو هزّات لا تتحمّلها، وحتّى تتكامل الأجيال وتلتقي مختلف العائلات الفكرية والسياسية على خدمة مصالح وطنية جامعة، تتنافس الأحزاب، في إطار التعددية والشفافية، على البرامج والأشخاص التّي تؤمّن تلك المصالح.

آن الأوان لإنهاء احتكار الدولة من طرف واحد لتكون جاذبة لأبنائها لا طاردة لهم. كما آن لمن عملوا طويلا في مواجهة الدولة أن يندمجوا في مؤسساتها وأن يعملوا من داخلها. فالثورة تجبّ ما قبلها، ومن ينخرطون في أهدافها ومسارها، ويلتزمون بدستورها، مهما كانت مواقعهم قبلها ومهما كانت إسهاماتهم في قيامها، لا فضل بينهم ولا عداوة، وأيديهم ممدودة لبعضهم لطيّ صفحة الماضي بسلبياته ومكاسبه، ولكتابة صفحات جديدة مشرقة من تاريخ تونس. وسيسجّل التاريخ اسمي الباجي قايد السبسي وراشد الغنوشي إلى جانب اسم الحبيب بورقيبة في تحقيق مصالحة تاريخية منشودة بين دولة الاستقلال وقيم الثورة.

محمد القوماني

* نشر بجريدة الرأي العام، العدد 51، تونس في 05 أفريل 2018
https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/29684079_1880873255269783_4698507771813942200_n.jpg?_nc_cat=0&oh=3696037c3afd8750b6f1f2932f1fb269&oe=5B73CCA9

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: